أطلقت صحيفة لوموند الفرنسية بين 24 و29 أغسطس 2025 سلسلة من ستة مقالات تحت عنوان «لُغز محمد السادس». استهلتها بمقال أول يلمح إلى «أجواء نهاية حكم» ويجعل من الوضع الصحي للملك محمد السادس خيطًا ناظمًا لقراءة الحاضر والمستقبل السياسي للمغرب. وقد فجرت هذه المعالجة ردود فعل قوية في المغرب، على المستويين الرسمي والشعبي، وأثارت جدلاً واسعًا حول صورة الملكية الموقرة، علاقة الإعلام الفرنسي بالمغرب، وحدود النقد اللائق في الصحافة الدولية.
أبرز رد رسمي جاء من
الجمعية الوطنية للإعلام والناشرين، التي أصدرت بيانًا اعتبرت فيه مقالات لوموند «روايات
بلا سند» و«حملة مُسيّسة» تمسّ المؤسسة الملكية. هذا البيان كان بمثابة نقطة ارتكاز
لوسائل الإعلام الوطنية، التي تناقلت مضامينه وأضفت عليها مزيدا من الشروحًات والتحليلات.
افتتاحيات ومقالات
رأي في الصحافة المغربية أيضا ذهبت في الاتجاه نفسه: بعض الصحف اتهمت لوموند بالاستشراق
المعكوس وإعادة تدوير صور نمطية قديمة، فيما ذكرت أخرى أن الصحيفة تجاهلت المشاريع
الكبرى والتحولات الاجتماعية والاقتصادية التي يشهدها المغرب خلال العقدين الأخيرين.
إن هذا الموقف الإعلامي
لم يكن مجرد رد دفاعي، بل محاولة لتثبيت سردية بديلة، تُبرز المنجزات في البنية التحتية
والطاقة المتجددة والإصلاحات الاجتماعية، مقابل السردية الفرنسية التي ركزت على الغموض
والالتفاف على الواقع.
ردود الفعل الحزبية
تميزت بنوع من الإجماع النادر. أحزاب الموالاة والمعارضة على السواء أدانت ما اعتبرته
«حملة أجنبية ممنهجة».
الاتحاد الدستوري تحدث
عن «موجة حملات إعلامية ضد رموز البلاد».
حزب التجمع الوطني
للأحرار ذكّر بالرابطة التاريخية بين الشعب والملك.
حزب الاستقلال ربط
المسألة بأعداء الوحدة الترابية ومحاولاتهم المتكررة للتشويش.
الحركة الشعبية أدانت
«حملات مصطنعة»، بينما اعتبر حزب التقدم والاشتراكية أن ما نشرته الصحيفة «بعيد عن
المهنية».
حتى حزب العدالة والتنمية،
عبّر على لسان أمينه العام عبدالإله بنكيران عن رفضه لما وصفه بمحاولة زرع الشك في
علاقة الشعب بالملك.
والخلاصة أن السجال
حول صحة الملك قد أعاد تأكيد التعلق السياسي العريض حول المؤسسة الملكية.
على مستوى الرأي
العام الشعبي، أظهرت النقاشات في وسائل التواصل الاجتماعي حالة من الغضب والانتفاض
الجماعي تجاه الصحيفة الفرنسية. الكثير من التدوينات والفيديوهات نشرت محتوى دفاعيًا
يجمع بين الوطنية والدعاء بشفاء الملك.
ومع ذلك، ظهرت أصوات
هامشية رأت في الجدل فرصة لطرح قضايا الشفافية الصحية وحق المواطنين في المعلومة، لكنها
بقيت محدودة وسط موجة عارمة من التضامن والدفاع عن المؤسسة الملكية. كما تداخل النقاش
أحيانًا مع قضايا الأمن الرقمي، إذ تحدثت بعض المنصات عن تسريبات رقمية و«حرب معلومات»،
مما عزز إحساس الجمهور بوجود حملة مغرضة ومؤامرة موجهة من الخارج.
في 24 أغسطس نفسه،
وُجهت رسالة ملكية إلى المشاركين في الدورة 82 لمعهد القانون الدولي بالرباط، تمت
تلاوتها باسم الملك، وطرحت رؤية قانونية حول النظام الدولي. إن هذا الحضور غير المباشر
اعتُبر دليلاً على استمرار المؤسسة في أداء مهامها، حتى وإن كانت الإطلالات العلنية
محدودة.
الانتقاد المغربي لم
يتوقف عند حدود الدفاع عن المؤسسة الملكية، بل ذهب أيضًا إلى مساءلة المنهج الصحفي
لـلوموند. فالمقالات اعتمدت على مصادر مجهولة، ونسجت سيناريوهات من الشائعات، وركّزت
على سؤال الصحة في ثقافة سياسية تعتبر هذا الموضوع من «الخصوصيات» المحمية.
ورأى كثيرون أن السلسلة
أقرب إلى الرواية منها إلى التحقيق الاستقصائي، وأنها تبالغ في إسقاط تفاصيل فردية
على صورة نظام كامل. في المقابل، هناك من اعتبر أن مساءلة تماسك الحكم حق مشروع، لكن
الاستدلال على «نهاية حكم» بخيط واحد يظل هشًا.
لا يمكن قراءة هذا
الاشتباك الإعلامي بمعزل عن سياق العلاقة الفرنسية–المغربية. فمنذ خريف 2024، استعاد
البلدان مسار المصالحة على المستويين السياسي والاقتصادي، وأعادت باريس صياغة مواقفها
تجاه قضية الصحراء. لذلك اعتبر كثيرون أن سلسلة لوموند تمثل اختبارًا إضافيًا للعلاقة
بين المغرب و«فرنسا الصحافة» بعد «فرنسا الدولة».
ورغم اللهجة الشعبية
الغاضبة، فقد تجنبت الرباط أي تصعيد دبلوماسي رسمي مباشر، واكتفت بالرد الإعلامي والسياسي
الداخلي، وكأنها أرادت حصر الجدل في دائرة «تصويب الرواية» بدل فتح أزمة جديدة مع باريس
الرسمية.
على الهامش، برزت بعض
الأصوات التي دعت إلى قدر من الشفافية الصحية، أسوة بملكيات أخرى تعلن بانتظام عن الوضع
الصحي لقادتها. هؤلاء يرون أن الالتفاف الشعبي حول المؤسسة لا يتعارض مع حق المواطنين
في المعلومة، وأن الثقة قد تُعزَّز بمصارحة ومكاشفات بين الشعب وعاهله.
لكن الخطاب السائد
ظل يؤكد أن تحويل صحة جلالة الملك إلى مادة إعلامية خارج الضوابط المهنية يفتح الباب
أمام التلاعب والشائعات، وأن الأولوية هي حماية رمز الوحدة الوطنية من التأويلات الخارجية.
ما نشرته لوموند لم
يكن حدثًا إعلاميًا عابرًا، بل مناسبة كشفت قدرة المؤسسة الملكية على خلق الوحدة الوطنية
الشاملة، تجمع بين الإعلام والأحزاب والمواطنين حيث في مواجهة سردية «النهاية»، فضّل
المغاربة سردية «الوقائع المضادة» التي تستند إلى المنجز المؤسسي والنشاط الملكي، حتى
ولو كان عبر رسائل مكتوبة أو إشارات رمزية.
وفي العمق، أعاد هذا
الجدل طرح أسئلة جوهرية: من يملك حق تعريف اللحظة المغربية—الصحافة الفرنسية أم المنظومة
الإعلامية المغربية؟ وكيف يمكن تحقيق التوازن بين قدسية المؤسسة وحق الجمهور في المعلومة؟
0 التعليقات:
إرسال تعليق