لم يكن أحد ليتوقع أن يطل صباح يحمل خبرًا كهذا، خبرًا يهوي في القلب كحجر في بئر ساكنة، فيتفجر صداه في الأعماق. بدا الأمر أشبه بانطفاء مصباح عتيق في غرفة منسية، غرفة لا تُفتح أبوابها إلا نادرًا، لكنها حين تُفتح تغمرها أنوار دافئة كما لو لم تغب عنها الحياة يومًا.
في هذا الأربعاء الحزين، وبينما كانت عيون الأدباء تتنقل بين العناوين الباردة على شاشات هواتفها، ظهرت في أحد أركانها جملة : وفاة الروائي المصري صنع الله إبراهيم. عندها ارتجّت رفوف الذاكرة، وكأن يدًا خفية امتدت لتنتزع صفحة كاملة من دفتر الطفولة الأدبية، تاركة وراءها فراغًا لا يُملأ.
أتذكر أول مرة قرأت
له، كان ذلك في منتصف التسعينيات، حين وقعت في يدي نسخة مهترئة من رواية "اللجنة".
كنت شابًا غارقًا في أحلام الثورة والحرية، والمدينة من حولي تضيق، بينما أبواب العالم
لا تزال موصدة . لم تكن "اللجنة" مجرد رواية بالنسبة إليّ، بل كانت تجربة
هزت يقيني، ووضعتني في مواجهة بيروقراطية لا وجه لها، وسلطة تتسلل إلى تفاصيل الحياة
حتى في الأسئلة الصغيرة. كنت أقرأ وأشعر أن صنع الله يكتب عني، عن خوفي، عن ذلك القيد
الخفي الذي لا نراه لكنه يضبط إيقاع أنفاسنا.
بعدها جاء دور
"تلك الرائحة"، النص الذي بدا لي أول الأمر أقرب إلى دفتر ملاحظات منه إلى
رواية، لكنه كان أقوى من أي حبكة تقليدية. فيه تعلّمت أن الأدب لا يحتاج إلى زخرفة
ليكون عميقًا، وأن الصمت أحيانًا أبلغ من الحوار. كنت وقتها قد بدأت أحاول الكتابة
بنفسي، وكنت أعود إلى "تلك الرائحة" كلما شعرت أن الجملة التي أكتبها مثقلة
أكثر مما يجب.
لكن الذروة كانت حين
قرأت "وردة". تلك الرواية كانت أشبه بمرآة صدئة أرى فيها تاريخنا العربي
الممزق، من عُمان إلى القاهرة، عبر حكاية امرأة تبحث عن ذاتها في قلب الثورة. أعجبتني
جرأته في إعادة بناء الماضي القريب بلا أقنعة، وصدقه في تصوير الخيبات. لم يكن صنع
الله يكتب لتزيين التاريخ، بل لخلخلته، ولجعله مادة قابلة للمساءلة.
في سنوات لاحقة، صرت
أقرأه بطريقة مختلفة. لم أعد فقط أتتبع موضوعاته أو شخصياته، بل صرت أفتش في سطوره
عن ذلك الإيقاع البارد الذي يشبه نبرة مذيع أخبار يروي مأساة لا تنتهي. كنت أشعر أن
صنع الله يضع قارئه دائمًا في وضع الشاهد، لا الضحية ولا البطل، وكأن مهمتنا أن نرى
ونحفظ، حتى لو لم نملك تغيير شيء.
إن علاقتي بكتب صنع
الله لم تكن مجرد إعجاب بكاتب كبير؛ لقد كانت نوعًا من الصداقة الصامتة. كنت أعود إليها
كما يعود المسافر إلى بيت طفولته، ليتأكد أن النوافذ لا تزال تطل على الشارع نفسه،
وأن رائحة الكتب لم تتغير. وحين سمعت خبر رحيله، أدركت أن تلك العودة لن تكون كما كانت،
وأن البيت سيظل قائمًا لكن صاحبه لن يفتح الباب مجددًا.
اللافت أن صنع الله
إبراهيم، رغم شهرته واحتفاء الجوائز به، ظل في نظر كثيرين كاتبًا خارج "الموضة"
الأدبية. لم يغازل السوق، ولم يكتب ليُرضي القارئ الكسول، بل كان يصرّ على أن الأدب
فعل مقاومة، حتى وإن اتخذ شكل جملة جافة أو وصف عابر. كان يذكّرني دائمًا بما قاله
إدوارد سعيد عن "المثقف المنفي" الذي يعيش داخل مجتمعه وكأنه خارجه في الوقت
ذاته.
الآن، وأنا أكتب هذه
السطور، أشعر أن صنع الله إبراهيم لم يرحل تمامًا. إن كتبه ما زالت هنا، تملأ رفوف
مكتباتنا، وتطل علينا بصفحاتها المصفرة، تمامًا كما كان يطل هو من خلف نظارته السميكة
في صوره القليلة. ربما هذا ما يمنح الكاتب حياة أطول من عمره البيولوجي: أن يظل حيًا
في ذاكرة قرائه، وفي نصوص تجرؤ على أن تطرح الأسئلة التي يخشاها الآخرون.
بالنسبة لي، سيظل صنع
الله إبراهيم علامة فارقة في مسيرتي كقارئ وكاتب. فقد علّمني أن الأدب ليس ترفًا، بل
ضرورة؛ وأن السرد يمكن أن يكون سلاحًا لا يقل تأثيرًا عن أي بيان سياسي. ومع رحيله،
أشعر أنني فقدت جزءًا من صوتي الداخلي، ذاك الذي كان يهمس لي: لا تكتب كي ترضي أحدًا،
اكتب لأن الحقيقة تستحق أن تُروى.
ربما أعود هذا المساء
إلى مكتبتي، أبحث عن نسخة قديمة من "اللجنة" أو "وردة"، وأعيد
قراءتها ببطء. ليس من أجل الحنين فقط، بل لأتأكد أن صنع الله ما زال هنا، في الصفحات،
وفي تلك النبرة التي لا تخطئها الأذن، نبرة الكاتب الذي اختار أن يقف دائمًا على الضفة
الأخرى، حيث لا أحد يساوم على الحرية.
أعماله
رواياته
إنسان السد العالي (1967).
نجمة أغسطس (1973).
اللجنة (رواية) (1981).
بيروت بيروت (1984).
يوميات الواحات «سيرة
ذاتية».
ذات (رواية) -
(1992)، (تم تحويلها لمسلسل تلفزيون عرض رمضان 2013 اسمه - بنت اسمها ذات).
شرف (رواية) - (1997).
وردة (رواية) - (2000).
أمريكانلي - (2003).
التلصص - (2009).
العمامة والقبعة - (2008).
القانون الفرنسي - (2008).
الجليد (رواية) - (2009).
برلين 69 (رواية) - (2014).
رواية 1970 - (2020).
قصصه القصيرة
تلك الرائحة -
1966
الثعبان
أرسين لوبين
أبيض وأزرق
قصص للأطفال
رحلة السندباد الثامنة،
دار الفتى العربي.
يوم عادت الملكية القديمة،
دار الفتى العربي - 1982.
عندما جلست العنكبوت
تنتظر، دار الفتى العربي - 1983.
الدلفين يأتي عند الغروب،
دار الفتى العربي.
اليرقات في دائرة مستمرة
1983.
الحياة والموت في بحر
ملون 1983.
الوفاة
توفّي صنع الله إبراهيم
بعد صراعه مع المرض في 13 أغسطس 2025 عن ثمانيةٍ وثمانين سنة.
0 التعليقات:
إرسال تعليق