الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الاثنين، سبتمبر 22، 2025

محاورات بين فلاسفة ومفكرين معاصرين (3) هانا أرندت التلفزيوني مع غونتر غاوس: عبده حقي


في خريف عام 1964، استضاف الصحفي الألماني غونتر غاوس على شاشة القناة الألمانية ZDF الفيلسوفة السياسية هانا أرندت في حوار سيظل محفورًا في تاريخ الفكر السياسي المعاصر. كان اللقاء بمثابة مواجهة بين ذاكرة القرن العشرين وأحد أبرز العقول التي حاولت تفكيك شروره. جلست أرندت، اليهودية الألمانية التي عاشت تجربة الاضطهاد النازي والنفي إلى الولايات المتحدة، لتتحدث عن قضايا طالما أرّقت أوروبا والعالم: الطغيان، المنفى، والمسؤولية السياسية. بدا الحوار كاشفًا ليس فقط عن فكر أرندت بل عن علاقتها الشخصية بالتاريخ، وعن كيفية إدماج التجربة الفردية في نقد شامل لبنية السلطة الحديثة.

الحوار الذي جرى بين أرندت وغاوس يمكن اعتباره وثيقة نادرة، إذ لا يكتفي بإظهار أفكارها في نصوص مكتوبة مثل "أصول التوتاليتارية" (1951) أو "إيخمان في القدس" (1963)، بل يعكس كذلك نبرة صوتها، إيقاعها الداخلي، وحتى لحظات صمتها المترددة. في كل جملة كانت هناك طبقات من الذاكرة والجرح والتفكير النقدي.

ركز غاوس على سؤال التوتاليتارية، وهي القضية التي كرّست أرندت سنوات من حياتها لفهمها. في الحوار، لم تتحدث عن الطغيان بوصفه مجرد جهاز سياسي، بل بوصفه انهيارًا للإنسانية ذاتها. رأت أن الأنظمة التوتاليتارية لا تكتفي بإلغاء الحرية السياسية، بل تعمل على تفكيك الروابط الاجتماعية وتحويل البشر إلى كائنات معزولة، بلا رأي، بلا انتماء، وبلا ذاكرة جماعية. هذا الطرح كان بمثابة استباق لمناقشات لاحقة حول تفاهة الشر (banality of evil)، حيث يتحول الشر إلى ممارسة بيروقراطية عادية، بلا دوافع شيطانية كبرى، بل عبر طاعة باردة للقوانين والأوامر.

لم يكن الحوار أكاديميًا محضًا، بل شخصيًا أيضًا. فقد استعاد غاوس مع أرندت تجربتها كمنفية من ألمانيا النازية، عابرةً فرنسا وصولًا إلى الولايات المتحدة. تحدثت عن معنى أن تفقد "الوطن"، وأن يُسلب منك الحق في الانتماء السياسي، وهو ما جعلها ترى أن فقدان الوطن ليس مجرد فقدان جغرافيا، بل فقدان للحق في أن يكون لك حقوق. هذا التصور سيصبح لاحقًا من ركائز فلسفتها السياسية حول المواطنة واللجوء، حيث ربطت المنفى بتحطيم فكرة الإنسان كمواطن في مجتمع منظم.

أحد أهم محاور الحوار تمثل في سؤال المسؤولية: كيف يمكن للفرد أن يتحمل تبعات قراراته في زمن تُهيمن فيه أنظمة شمولية؟ أرندت شددت على أن المسؤولية لا يمكن تفويضها. فحتى في ظل القمع، يظل للفرد هامش قرار، ولو كان بسيطًا. ومن هنا جاء تحليلها لإيخمان في القدس، حيث أبرزت أن الجريمة الكبرى لم تكن في الحقد، بل في غياب التفكير النقدي: شر يأتي من الطاعة العمياء. في الحوار، أعادت أرندت صياغة هذا المبدأ، مؤكدة أن كل إنسان مُطالب بممارسة التفكير كفعل مقاومة.

أهمية هذا اللقاء تتجاوز مضمونه لتصل إلى رمزيته. ففي ألمانيا الستينيات، كانت الذاكرة النازية لا تزال مثقلة بالصمت والإنكار. أن تظهر هانا أرندت على شاشة عامة، امرأة يهودية عادت من المنفى، وتخاطب المجتمع الألماني حول تاريخه القريب، كان فعلًا سياسيًا بحد ذاته. لقد جسدت بذلك صورة "الشاهدة – المفكرة": من عاشت التجربة، وفككتها نظريًا، وعادت لتضعها أمام جمهورها الأول.

من اللافت أن أرندت لم تقع في فخ الثأر أو السردية الضحية. حديثها كان عقلانيًا، لكنه لم يخلُ من حرارة التجربة. فقد أعلت دائمًا من قيمة التجربة الإنسانية المشتركة: الحرية، المواطنة، القدرة على الفعل. في الوقت الذي تحدثت فيه عن مأساة اليهود في أوروبا، كانت تؤكد أن التوتاليتارية خطر يهدد كل البشر، وأن الدفاع عن الحرية ليس مسألة جماعة بعينها، بل مسألة كونية تخص الإنسانية جمعاء.

بعد مرور ستة عقود، يظل هذا الحوار مرجعًا في قراءة فكر أرندت. ليس فقط لأنه يقدم خلاصات حول مفاهيمها الكبرى، بل لأنه يكشف عن بُعد إنساني في فلسفتها، بعيدًا عن لغة الكتب الصارمة. فالكلمات التي تبادلتها مع غاوس تبدو اليوم أكثر راهنية في ظل صعود نزعات شمولية جديدة، وأزمات لجوء متجددة، وأسئلة حول حدود المسؤولية الفردية في مواجهة أنظمة الاستبداد الرقمي والبيروقراطية المعاصرة.

الحوار بين هانا أرندت وغونتر غاوس عام 1964 ليس مجرد لحظة تلفزيونية عابرة، بل حدث فلسفي – سياسي متكامل. لقد أضاء العلاقة المعقدة بين الفكر والتجربة، بين الفرد والتاريخ، بين المنفى والمسؤولية. من خلاله، تذكّرنا أرندت أن الفلسفة ليست ترفًا نظريًا، بل أداة لمواجهة الشر واللامعقول، وأن التفكير يظل فعلًا سياسيًا مقاومًا في مواجهة كل أشكال الطغيان. لقد وضعتنا أمام سؤال سيبقى مفتوحًا: هل يمكن للإنسان أن يظل حرًا حتى في قلب أكثر الأنظمة قمعًا؟

0 التعليقات: