مقدمة : في كتابه Reading Machines: Toward an Algorithmic Criticism (2011)، يقدم ستيفن رامزي طرحًا يؤكد أن الحوسبة (computational analysis) ليست مجرد أداة مساعدة في النقد الأدبي، بل يمكن أن تصبح “آلة قراءة” تُحدث تحوّلاً في كيف نفهم النصوص، كيف نقرأها، كيف نُسائلها، وكيف نفسّرها.
يُعرف هذا الاتجاه باسم “النقد الخوارزمي (algorithmic criticism)،وهو يسعى إلى دمج الحوسبة كمكوِّن أساسي في النقد الأدبي، ليس فقط للبحث عن الأنماط الكمية أو الإحصائية، بل لفهم العمليات التي تتحكّم في النصوص وتحريك إمكانية التفسير بطريقة جديدة.
في هذه المراجعة، سنتتبّع
أهم أفكار الكتاب، نقاط القوة، نقاط الضعف، وأخيرًا تقدير عام لأهميته في البحث الأدبي
المعاصر.
ما معنى “آلات القراءة”
يستخدم رامزي فكرة
“الآلة” ليس بمعنى الماكينة المادية فقط، بل كنظام يستخدم الحاسوب لقراءة النص ـ أي
معالجته وتحليله بطرق لا يمكن للقارئ البشري القيام بها بسهولة أو بكفاءة. هذه الآلة
قادرة على إحصاء التكرارات، الكشف عن الأنماط، التموضع التكراري للكلمات، تجزئة النصوص،
المقارنة بين كميات ضخمة من النصوص، وغيرها.
النقد الخوارزمي (Algorithmic Criticism)
النقد الخوارزمي عند
رامزي ليس فقط تطبيق لبرمجيات تحليلية، بل التجاوب مع الأسئلة التالية: كيف تُنشأ الخوارزميات؟
ما هي الافتراضات التي تُضمَّنها؟ كيف يؤثر تصميم الأداة في نوعية النتائج التي نحصل
عليها؟ وكيف يمكن أن يُعاد تشكيل فهمنا للنص من خلال ما تقدّمه هذه الخوارزميات؟
العلاقة بين الموضوعية
والذاتية
لا يدّعي رامزي أن
الخوارزميات توفر موضوعية مطلقة خالية من التأويل؛ بل يرى أن الخوارزمية تفرض قيودًا (constraints) لكنها أيضًا تفتح إمكانية للتفسير، للتأويل،
للعب مع النص، بل وحتى للخطأ، لأن القراء والمستخدمين للتكنولوجيا هم بشر، ولديهم فرضياتهم
وانزياحاتهم.
المفارقة بين القرب
من النصّ والبعد عنه
من جهة، الخوارزميات
تتيح “قراءات بعيدة (distant reading) — أي النظر إلى أنماط عبر مجموعة ضخمة من النصوص، أو عبر الزمن، أو عبر
الأنواع ـ وهي ما قد يغيب على القارئ الفردي. من جهة أخرى، الحاجة إلى “القرب” من النص،
للغموض، للتفاصيل الدقيقة التي قد لا تُلطخها الأرقام، أو تُهمَل فيها التفاصيل الدقيقة.
رامزي يدعو إلى التوازن بين هذين البعدين.
القيود والافتراضات
يعترف رامزي بأن الأدوات
الخوارزمية تأتي مع افتراضات مسبقة: اختيار البيانات، الترميز (encoding) للنصوص، الطريقة التي تُبرمج بها الخوارزمية،
مدى الشفافية في العمليات، مدى فهم الناقد لهذه العمليات التقنية. كما أن هناك خطر
“التبسيط المخل” إن تم استخدام الخوارزميات بشكل سطحي، دون نقد للآليات التي تُشكّله.
نقاط القوة
الرؤية الجديدة: الكتاب
يُقدّم رؤية جديدة لخيار القراءة والنقد الأدبي في عصر التكنولوجيا. فكرة أن الخوارزميات
يمكن أن تكون جزءًا من النقد الأدبي نفسه، ليست مجرد وسيلة جانبية، هي فكرة قوية ومهمة.
الموازنة بين التقنية
والبشرية: لا يبتعد رامزي كثيرًا في التشيؤ (reification) للخوارزميات؛ هو يدرك أن الإنسان لا يزال
في قلب النقد، وأن الخوارزمية ليست بديلاً للنقد البشري بل مكملًا.
الإشكالية المنهجية:
الكتاب يلفت الانتباه إلى أن كل تحليل خوارزمي ينطوي على اختيارات منهجية، افتراضات،
حدود، وأن النقد يجب أن يسائل هذه الاختيارات. هذا أمر ضروري لمن لم يكن معتادًا على
التفكير التقني.
الإيجاز والتركيز:
رغم أن الكتاب ليس طويلاً، إلا أنه مركّز، يقدّم المفاهيم الأساسية، الأمثلة الكافية،
ويُحفّز القارئ/النقاد على التفكير، وربما على التجريب بأنفسهم.
نقاط الضعف أو التحدّيات
قلة الأمثلة التطبيقية
المعمقة: يشير بعض المراجعين إلى أن الكتاب كان يمكن أن يستفيد من مزيد من الدراسات
التطبيقية التفصيلية: تحليل نصّ معيّن باستخدام خوارزميات، مع مقارنة بين القراءة التقليدية
والخوارزمية، لبيان ما يُكتَسب وما يُهمل.
التعقيد التقني ضمن
الإمكانيات: بعض القراء قد لا يكون لديهم خلفية تقنية قوية، وقد تُثير مفاهيم مثل الترميز
والبرمجة والمصفوفات والخوارزميات أسئلة يصعب متابعتها دون مساعدة خارجية أو شرح مبسَّط.
مخاطر التعميم: الاعتماد
على الخوارزميات قد يؤدي إلى تعميمات أو استنتاجات تبدو صادمة أو غير دقيقة إذا لم
يُراعِ الفوارق الثقافية واللغوية والسياقية للنصوص. مثلاً، خوارزمية تُعطي وزنًا لتكرار
كلمة أو أنماط لغوية قد لا تعكس الأهمية الأعمق أو الرمزية في النص.
الشفافية والأخلاق:
من المهم تسليط الضوء على أن الخوارزمية ليست محايدة. من الذي يختار البيانات؟ من يُحدّد
كيف يُرمَّز النص؟ ما هي الفرضيات الضمنية عن اللغة أو الأدب أو الثقافة التي تُدخلها
الخوارزمية؟ هذه الأسئلة تحتاج إلى مزيد من المناقشة ولعل الكتاب يقدم بداية لكن ليست
كاملة.
القيمة والأهمية
يمكن القول إن Reading Machines كتاب مهم جدًا للأدب والنقد الأدبي، خاصة
في ظل التحولات التي تحدث في عصر الرقمنة الرقمية. إليك بعض القيم التي يقدمها:
يفتح آفاقًا لمنهج
نقدي جديد يتفاعل مع التكنولوجيا بدل أن يكون مستقلًا عنها.
يُحفّز النقاد والعلماء
الأدبيين على اكتساب مهارات تقنية، أو على الأقل فهمها، لكي يتمكنوا من المشاركة بفعالية
في النقاش المعاصر.
يربط بين الاهتمام
بالتقنية وبين القيم التقليدية للنقد: اهتمام بالمعنى، بالعلاقة بين النص والقارئ،
بالتفسير، بالسياق.
يساعد على إدراك أن
القراءة ليست نشاطًا سلبيًا يتم فيه استخراج المعاني فقط، بل نشاط توليدي، يتضمن اختيارات،
تحويرات، تجريبًا، لاحتمالات لا تُرى عادةً.
الخلاصة
إن كتاب آلات القراءة:
نحو نقد خوارزمي
Reading Machines: Toward an Algorithmic Criticism لستيفن
رامزي هو محاولة رائدة لإعادة تفكير كيف نقرأ، كيف نفسّر، وكيف يستخدم الأدب الأدوات
الرقمية ليس كمساعد هامشية بل كجزء من المنهج النقدي ذاته. إنه لا يقدم جوابًا نهائيًا،
لكنه يطرح أسئلة مهمة ويكشف عن إمكانيات كبيرة ونقاط خطر.
من جهة، يوفر أساسًا
قويًا لمن يرغب في الجمع بين الأدب والتقنية، ومن جهة أخرى يُذكّرنا بأنه لا بد من
وعي نقدي كبير، من توخّي الشفافية، وإدراك الفرضيات، ومراعاة السياق الثقافي.
إذا كنت من المهتمين
بالأدب الرقمي، النقد المعاصر، أو بتحوّلات القراءة في عصر الحوسبة، فهذا الكتاب جدّ
جدّ مهم. ويمكن اعتباره مرجعًا يُمكِّن النقاد من التفكير في أدوات جديدة، وتوسيع مفاهيم
النقد والأدب.
0 التعليقات:
إرسال تعليق