الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الثلاثاء، سبتمبر 23، 2025

الذكاء الاصطناعي بين سحر الاكتشاف وخطر فقدان المعنى: عبده حقي


لقد تحوّل الذكاء الاصطناعي في السنوات الأخيرة إلى موضوع فلسفي وثقافي بامتياز. فكلّما ازدادت قدراته على إنجاز ما كان حكرًا على الإنسان – من كتابة النصوص وتحليل البيانات إلى إنتاج الصور والإبداع الفني – تعالت الأسئلة حول موقعنا كبشر: إذا كانت الآلة قادرة على فعل كل شيء تقريبًا، فما الذي يبقى من قيمة للتعلّم والمعرفة والجهد الذهني؟

يرى بعض المفكرين أنّ الذكاء الاصطناعي يعيد إلى العالم شيئًا من "الإبهار" المفقود. فالمعادلات الميكانيكية المملة تتحوّل بفضل الخوارزميات إلى حلول سريعة وأنيقة، والبحث المضني في بطون الكتب صار يُختصر بكلمات معدودة تُسأل بها الآلة فتجيب بثقة. هنا يبدو وكأننا أمام شكل جديد من "السحر"، يعيد للإنسان دهشة الاكتشاف.

لكن هذا الإبهار يخفي وجهًا آخر أكثر تعقيدًا. فالمعرفة، إذا تحوّلت إلى منتَج جاهز يقدَّم في لحظة، قد تفقد عمقها وقيمتها. يصبح كل شيء متاحًا بسهولة، لكن بلا تجربة شخصية أو معاناة فكرية، وبذلك تنحسر قدرة الإنسان على التذوّق النقدي والتحليل العميق.

الخطورة لا تكمن فقط في القدرات الخارقة التي يَعِد بها الذكاء الاصطناعي، بل في الطريقة التي يتعامل بها المجتمع معه. ثمة ميل إلى تحويل الآلة إلى "إله جديد"، يعتقد البعض أنّه يملك الحلول لكل الأزمات، من السياسة إلى الاقتصاد والتعليم. غير أنّ هذا الانبهار يُنتج نوعًا من التواكل: لماذا أتعلم وأجتهد إذا كانت الخوارزمية قادرة على التفكير والكتابة والابتكار بالنيابة عني؟

هذه الذهنية تفتح الباب أمام انهيار قيمة العمل الذهني والإبداع الفردي، بل قد تؤدي إلى تحويل الإنسان إلى مجرّد "مستهلك" لمنتجات معرفية جاهزة، من دون أن يكون له فيها جهد أو مساهمة.

الحقيقة أنّ التعلّم ليس فقط تراكم معلومات، بل تجربة إنسانية تُشكّل الهوية وتمنح الفرد القدرة على التفاعل النقدي مع العالم. حين يحلّ الذكاء الاصطناعي محلّ هذه التجربة، يصبح الخطر الأكبر هو فقدان "المعنى". فالآلة قد تُجيب على أسئلتنا، لكنّها لا تستطيع أن تخوض معنا رحلة البحث الطويلة، ولا أن تزرع فينا الإحساس بقيمة الاكتشاف، ولا أن تنقل لنا حرارة التجربة الإنسانية التي تصاحب المعرفة.

من هنا تبرز الحاجة إلى مقاربة متوازنة. لا يمكن إنكار أنّ الذكاء الاصطناعي يفتح آفاقًا مذهلة، لكن المطلوب هو أن نضع له حدودًا تحافظ على دور الإنسان بوصفه الفاعل المركزي في إنتاج المعنى. على التعليم أن يركّز أكثر على تنمية النقد والتأمل والإبداع، بدلاً من الاقتصار على نقل المعلومات. وعلى الثقافة أن تحافظ على مكانة الجهد البشري، كي لا يتحوّل كل شيء إلى نسخ بلا روح.

في المحصلة، الذكاء الاصطناعي ليس فقط تقنية، بل مرآة تعكس أعمق أسئلتنا الوجودية: من نحن؟ ولماذا نتعلم؟ وما الذي يميّزنا عن آلة تُتقن الحساب والإنتاج؟ بين الإبهار والخيبة، بين السحر والفراغ، يبقى الرهان الحقيقي هو أن نعيد تعريف علاقتنا بالمعرفة، بحيث تظلّ تجربة إنسانية أصيلة، لا مجرّد وظيفة يمكن استبدالها بخوارزمية.

0 التعليقات: