الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الجمعة، سبتمبر 12، 2025

«سيرات»… رحلة صوفية على رمال المغرب: ترجمة عبده حقي


في فيلمه الجديد سيرات، يغامر المخرج الفرنسي الإسباني أوليفر لاكس بخوض تجربة سينمائية تتجاوز حدود السرد الكلاسيكي، لتتحول إلى رحلة صوفية تتأرجح بين الواقع والميتافيزيقا. الصحراء المغربية، بامتدادها الذي لا يعرف نهاية، تحوّلت إلى فضاء وجودي يُعيد صياغة علاقة الإنسان بنفسه وبالآخرين.

يفتتح الفيلم بمشهد مثير: شاحنات ضخمة تحمل معدات صوتية هائلة تُنصب وسط الرمال لتقيم مهرجاناً صاخباً على أنغام موسيقى إلكترونية. هنا، يضع لاكس المتفرج أمام تجربة حسية جارفة، كأنها محاكاة للحياة المعاصرة بكل صخبها، قبل أن يقذف بنا في مسار آخر: أب وابنه ينطلقان في رحلة محفوفة بالغموض بحثاً عن الابنة المختفية في أعقاب تلك الليلة.

هذا الانتقال من الجماعي إلى الفردي، من ضجيج الموسيقى إلى صمت الصحراء، يشبه التحول من الظاهر إلى الباطن في التجربة الصوفية. فالمشهد الأول يمثل لحظة التيه والذوبان في الحشود، أما الرحلة التالية فهي لحظة العودة إلى الذات، إلى السيرة الفردية التي تبحث عن خلاص.

ليست الصحراء في فيلم سيرات مجرد فضاء جغرافي؛ إنها شخصية قائمة بذاتها. صمتها يوازي قوة اللغة، وامتدادها يعكس فراغاً داخلياً يواجهه الأب والابن. هذا الحضور يحيل إلى استخدام الصحراء في الأدب العربي، كما في أعمال الطيب صالح أو إبراهيم الكوني، حيث تتحول الرمال إلى مرآة للذاكرة والقدر.

الصحراء هنا لا ترحم: هي في آن واحد فضاء للاختفاء والمحو، وللتجلي والصفاء. ولعل هذا التناقض يجعلها فضاءً مثالياً لطرح أسئلة وجودية حول الحرية والمصير والبحث عن المعنى.

تؤدي الموسيقى في الفيلم وظيفة مزدوجة: من جهة، تعكس اندفاع الجموع نحو لحظة انفصال جماعي عن الواقع، ومن جهة أخرى، تُبرز عزلة الفرد أمام قدره. في لحظات الرقص الجماعي، يذوب الإنسان في الآخر، لكن الرحلة في الصحراء تذكّره بوحدته الوجودية.

هذا التوتر بين الذوبان في الجماعة والانفراد بالذات يقارب أطروحات الفيلسوف إميل دوركايم حول الطقس والقداسة، بل يمكن مقارنته أيضاً بمفاهيم «الجماعية» في أدب الواقعية السحرية، حيث يتحول الطقس إلى أداة للاتصال بما وراء الطبيعي.

لاكس سبق أن قدّم في مِموزاس. طريق الأطلس (2016) صورة عن الرحلة الروحية في جبال المغرب. لكن سيرات يتقدّم خطوة أبعد: لا يكتفي بالتأمل الصوفي، بل يدخل منطقة أكثر خطورة، حيث يلتقي الميتافيزيقي بالمعاصر، والرغبة في الخلاص بالضياع في متاهة الحداثة.

إذا كان فيلم مِموزاس يقترب من روح الحكاية الصوفية القديمة، فإن سيرات يفتح أبواباً نحو «أدب الطريق» الغربي، من On the Road لجاك كيرواك إلى «الطريق» لكورماك ماكارثي، حيث يصبح السفر جسراً بين الحياة والموت، بين الانطفاء والبحث عن الضوء.

لا يقدّم لاكس أجوبة مباشرة: هل اختفاء الابنة حدث عرضي أم رمز لانهيار التواصل بين الأجيال؟ هل البحث عنها رحلة خلاص أم انغماس جديد في متاهة؟ يترك المخرج المشاهد في مواجهة الصحراء، حيث كل سؤال يولّد سؤالاً آخر.

بهذا المعنى، فإن سيرات هو عبارة عن تجربة يجب أن تُعاش. السينما هنا ليست وسيلة للهروب من الواقع، بل طريق لمواجهته في أعمق معانيه.

سيرات يندرج ضمن تلك الأعمال السينمائية النادرة التي تلتقي فيها الصوفية مع الحداثة، حيث يتحول الجسد الراقص في رمال المغرب إلى رمز للبحث الأبدي عن الحرية والمعنى. إنه فيلم يذكّرنا بأن الصحراء ليست مجرد جغرافيا، بل فضاء روحي يُمتحن فيه الإنسان أمام ذاته، تماماً كما يحدث في النصوص الصوفية الكبرى أو في تجارب «الطريق» في الأدب العالمي.

0 التعليقات: