منذ أن بدأ الباحثون في مطلع القرن العشرين يدرسون ما يُعرف بالتجربة السينستيزية (Synesthesia)، أي قدرة بعض الأفراد على إدراك الأصوات كلونٍ، أو تذوق الكلمات كطعمٍ، أو رؤية الأرقام في فضاءات لونية محددة، بدا أن هذه الظاهرة لا تقتصر على الفنون التشكيلية أو الموسيقى، بل يمكن أن تفتح آفاقًا جديدة أمام الكتابة الصحفية نفسها. فالتقارير الإخبارية التي تستند إلى استدعاء هذه التجارب المترابطة تكتسب قدرة على تجاوز الوصف الحسي المباشر لتلامس البعد الرمزي والوجداني في إدراك الأحداث.
يُعرّف عالم الأعصاب
ريتشارد إي. سايتو هذه الظاهرة بأنها "تفاعل غير اعتيادي بين الحواس يولّد تجربة
مركّبة، لا تختزل في مسار إدراكي واحد". وإذا كانت الصحافة التقليدية تعتمد في
الأساس على البصر واللغة لنقل الوقائع، فإن استثمار هذا البعد يتيح للمراسل أن يدمج
بين الصوت واللون أو بين الصورة والملمس، فيصوغ خبرًا أو تقريرًا يثير استجابات أكثر
عمقًا لدى القارئ. هنا لا تعود الكتابة مجرد تسجيل للواقع، بل تتحول إلى تجربة إدراكية
تحاول أن تستحضر "شعور الحدث" لا وصفه فقط.
في سياق تغطية الحروب
مثلاً، قد يصف الصحفي دخان القصف ليس فقط كسحابة رمادية بل كـ"طعم معدني لاذع
يعلَق في الحلق"؛ وفي تقارير المناخ يمكن للكاتب أن يتحدث عن الجفاف باعتباره
"لونًا متشقّقًا يصرخ في الأرض"، وهو ما يقرّب القارئ من المأساة بطريقة
لا توفرها الأرقام وحدها. هذه اللغة المترابطة تذكّرنا بما قامت به الكاتبة فرجينيا
وولف حين دمجت بين الوعي الداخلي والتفاصيل الحسية في رواياتها، أو بما أنجزه شعراء
الطليعة مثل بودلير ورامبو حينما جعلوا من "المقابلات الحسية" أداة لبناء
صور شعرية جديدة.
غير أن توظيف هذه التجارب
في الصحافة يثير سؤالًا أخلاقيًا جوهريًا: إلى أي حد يمكن للصحفي أن يتجاوز الموضوعية
المعيارية نحو وصفٍ ينطوي على قدر من الذاتية؟ إن الخطر يكمن في أن تتحول اللغة السينستيزية
إلى مبالغة جمالية تحجب الوقائع بدل أن تكشفها. لكن بعض الدراسات الإعلامية الحديثة،
مثل تلك المنشورة في دورية Journalism Studies (2023)، تشير إلى أن الجمهور بات أكثر تقبّلًا لنماذج
الكتابة التي تمزج بين الخبر والسرد الأدبي، طالما حافظت على دقة المعلومة وصدقيتها.
وفي هذا السياق، يمكن
استحضار تجربة بعض الصحفيين الميدانيين الذين وثّقوا زلازل المغرب عام 2023؛ فقد لجأ
عدد منهم إلى وصف الهزّات كـ"موسيقى ارتجاجية داهمت الجدران"، وهو توصيف
جعل القارئ يستشعر الرعب اللحظي لا مجرد معرفته العقلية بالكارثة. مثل هذه الاستراتيجيات
في السرد تستند إلى ما يسميه بول ريكور بـ"التخييل المنتج للحقيقة"، أي قدرة
اللغة على بناء جسر بين المعطى الواقعي والتجربة الوجودية للقارئ.
إن الحديث عن دور التجارب
السينستيزية في الصحافة يقودنا أيضًا إلى التحولات الرقمية. فالصحافة الغامرة (immersive
journalism) القائمة
على تقنيات الواقع الافتراضي والواقع المعزز تمثل فضاءً خصبًا لاستثمار هذه الأبعاد.
تجربة New York Times VR، التي أطلقت عام 2015، أبرزت
كيف يمكن لنقل القارئ إلى فضاء ثلاثي الأبعاد أن يجعله "يرى الصوت" و"يسمع
الصورة"، وهي مقاربة قريبة من منطق الإدراك المترابط. هنا لم يعد الحديث عن نقل
الخبر فقط، بل عن بناء بيئة خبرية كاملة يعيشها القارئ كما لو كان داخلها.
ومع ذلك، تبقى الحاجة
ملحّة إلى تأطير هذا التوجّه داخل ميثاق أخلاقي يوازن بين الإبداع والصرامة المهنية.
فالصحافة ليست شعرًا خالصًا، لكنها أيضًا لم تعد مجرّد جدولٍ للمعطيات. وبين هذين الحدّين
يكمن مجال واسع لإعادة التفكير في دور الحواس المترابطة في تشكيل خطاب إخباري أكثر
تأثيرًا وأقرب إلى التجربة الإنسانية. وكأننا أمام عودة إلى المقولة القديمة لهوراس:
"الشعر رسمٌ ناطق، والرسم شعرٌ صامت"، غير أن الصحافة المعاصرة تجرّب أن
تكون الاثنان معًا في لحظة واحدة.
0 التعليقات:
إرسال تعليق