منذ آلاف السنين، شكّلت العقائد والديانات المتنوعة جزءاً من النسيج الحضاري الصيني: من الكونفوشيوسية التي أرست قواعد أخلاقية وسياسية متينة، إلى الطاوية التي جسدت نزعة روحية تبحث عن الانسجام مع الكون، وصولاً إلى البوذية التي دخلت من الهند في القرن الأول الميلادي، وأعادت تشكيل الخيال الجمعي للصينيين. لاحقاً، ومع توسع التجارة والاحتكاك مع العالم الإسلامي، ظهر الإسلام في مقاطعات مثل شينجيانغ، فيما ترسّخ الحضور المسيحي بفعل البعثات الأوروبية في القرون الأخيرة.
هذا التنوع الديني
لم يكن مجرد فسيفساء روحية، بل كان ساحةً لصراع النفوذ بين القوى المحلية والإمبراطوريات
المتعاقبة، قبل أن تنتقل السيطرة على الدين إلى الدولة الحديثة.
مع قيام جمهورية الصين
الشعبية عام 1949 بقيادة الحزب الشيوعي، اتخذت العلاقة بين الدولة والدين منحىً صارماً.
فقد اعتبر الحزب أن الدين "أفيون الشعوب" كما وصفه ماركس، ومن ثمّ خضع النشاط
الديني لرقابة مشددة، واعتُبر الولاء للدولة أسمى من أي ولاء آخر.
تُشرف الحكومة على
ما يُعرف بـ الجمعيات الدينية الرسمية التي تُدير شؤون البوذيين والمسلمين والمسيحيين
والطاويين، فيما تبقى الممارسات خارج هذا الإطار عرضةً للتجريم والملاحقة. بهذا المعنى،
يتم إدماج الدين ضمن مشروع الدولة لا بوصفه تعبيراً حراً، بل باعتباره أداةً سياسية
قابلة للتوظيف.
رغم القبضة الحديدية،
ظلّ الشعب الصيني متمسكاً بأشكال مختلفة من التدين. ففي الريف مثلاً، ما تزال الطقوس
التقليدية حاضرة، من تقديم القرابين إلى الأسلاف، إلى الاحتفالات الشعبية التي تستمد
روحها من الطاوية والبوذية.
أما في المدن الكبرى،
فقد ظهر نمط آخر يقوم على البحث عن الروحانية وسط ضغوط الحياة الحديثة، حيث يجد البعض
في المسيحية أو البوذية ملاذاً شخصياً بعيداً عن أيديولوجيا الحزب. ويبرز أيضاً حضور
الإسلام في حياة أقلية الإيغور، رغم القيود الكثيفة التي فرضتها الدولة تحت ذريعة
"مكافحة التطرف".
يرى بعض الباحثين أن
تعامل الصين مع الدين يعكس فلسفة سياسية أعمق: فالنظام لا يعادي الدين بشكل مطلق، لكنه
يرفض أي مؤسسة أو عقيدة قد تنافسه على الشرعية. من هنا تأتي محاولاته لاحتواء الممارسات
الدينية داخل أطر وطنية، بحيث يتحول الإسلام مثلاً إلى "إسلام صيني"، والمسيحية
إلى "مسيحية صينية"، بما يضمن انسجامها مع الخطاب القومي.
تكشف تجربة الصين عن
مفارقة جوهرية: فمن جهة، هناك دولة مركزية قوية تسعى لفرض نموذجها السياسي على جميع
مناحي الحياة، ومن جهة أخرى، هناك شعب يمتلك تقاليد روحية عميقة الجذور لا يمكن محوها
بسهولة. في هذا التوتر، يظهر سؤال أوسع يتجاوز الصين نفسها: هل يمكن لأي سلطة سياسية
أن تُخضع المعتقد الديني بالكامل؟ أم أن الدين، بحكم طبيعته الروحية، يظل دائماً قادراً
على التكيّف والمقاومة؟
0 التعليقات:
إرسال تعليق