في كتابه الشهير «النظام التكنولوجي»، يقدّم الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي جاك إيلول (Jacques Ellul) إحدى أكثر المقاربات الفكرية عمقًا حول العلاقة بين الإنسان والتقنية في القرن العشرين. هذا العمل الذي نُشر في سبعينيات القرن الماضي يُعدّ امتدادًا لمشروعه الفكري الذي بدأه بكتاب «المجتمع التكنولوجي»، لكنه أكثر نضجًا واتساقًا من حيث التحليل البنيوي والأنثروبولوجي لتطور التقنية بوصفها نظامًا مستقلاً لا يخضع لإرادة الإنسان، بل يفرض منطقه الخاص على جميع المجالات.
ينطلق إيلول من أطروحة
مركزية: أن التقنية لم تعد مجرد وسيلة يستخدمها الإنسان لتحقيق غاياته، بل أصبحت نظامًا
قائما بذاته يمتلك منطقه الداخلي، يتطور وفق معاييره الخاصة، ويتحرر شيئًا فشيئًا من
السيطرة البشرية. لم تعد التقنية تخدم السياسة أو الاقتصاد أو الدين، بل أصبحت هي المبدأ
الناظم لهذه المجالات جميعها. بهذا المعنى، ينتقل العالم الحديث — حسب إيلول — من مجتمع
إنساني يستخدم التقنية إلى مجتمع تكنولوجي تحكمه التقنية.
يرى إيلول أن ما يميز
هذا النظام هو نزعة الذاتية والاستقلالية؛ فالتطور التقني لا ينتظر اعتبارات أخلاقية
أو اجتماعية، بل يخضع فقط لمعيار «الفعالية القصوى» (efficacité maximale). أي أن كل ابتكار جديد يبرَّر فقط بقدر ما
هو أكثر كفاءة من سابقه، بصرف النظر عن نتائجه على البيئة أو الإنسان أو القيم.
يضع جاك إيلول الإنسان
أمام مفارقة حادة: فبينما تَعِدُ التقنية بالتحرر من الجهل والمرض والجهد البدني، فإنها
تخلق أشكالًا جديدة من العبودية. فالإنسان المعاصر يعيش — حسبه — في عالم يعتقد أنه
يختار بحرية، لكنه في الواقع خاضع لمنطق النظام التكنولوجي الذي يحدد حاجاته وأولوياته
وسلوكه اليومي.
من خلال هذه المفارقة،
ينتقد إيلول فكرة «الحياد التكنولوجي»، التي ترى أن التقنية مجرد أداة يمكن استخدامها
في الخير أو الشر بحسب نوايا المستخدم. يؤكد أن هذا التصور ساذج، لأن التقنية نفسها
تفرض أنماطًا جديدة من التنظيم والعلاقات الاجتماعية، وبالتالي تعيد تشكيل الوعي الإنساني.
من أكثر أفكار إيلول
إثارة هي وصفه للتقنية بأنها أصبحت دينًا جديدًا للإنسان الحديث. فالتقدم العلمي، في
نظره، حلّ محلّ الإيمان التقليدي؛ والإنتاج والاستهلاك أصبحا طقوسًا معاصرة. التقنية
تُعدّ اليوم مصدر الأمل والخلاص والخلود، وهي بذلك تكتسب وظيفة لاهوتية لم تكن لها
في المجتمعات القديمة.
وفي هذا السياق، يرى
إيلول أن الإنسان التكنولوجي فقد البعد الروحي الذي كان يمنحه معنى لوجوده، لأنه بات
يقيس كل شيء بمقياس المنفعة والسرعة والإنتاجية.
يتقاطع فكر إيلول مع
تحليلات مارتن هايدغر في مقالته الشهيرة «السؤال عن التقنية»، حيث يرى كلاهما أن التقنية
ليست مجرد أدوات، بل طريقة في الكشف عن الوجود. غير أن إيلول، بخلاف هايدغر، يتبنى
منهجًا سوسيولوجيًا نقديًا يربط التقنية بالبنية الاقتصادية والسياسية، بينما يظل هايدغر
في المستوى الأنطولوجي.
كما يتلاقى إيلول مع
مفكرين مثل هربرت ماركوز في نقده لـ«العقل الأداتي»، ومع نيل بوستمان في تحليله لثقافة
الإعلام، لكن إيلول ينفرد بعمق لاهوتي يُرجع أصل الأزمة إلى انفصال الإنسان عن الله
والطبيعة عبر التشييء الشامل الذي أحدثه النظام التكنولوجي.
من زاوية أخرى، يثير
إيلول أسئلة حاسمة حول العالم الثالث والمجتمعات غير الصناعية، إذ يرى أن دخول التقنية
إليها دون وعي نقدي يؤدي إلى تدمير البنى التقليدية دون تعويضها بنظام أخلاقي جديد.
هذه الفكرة تكتسب أهمية خاصة اليوم في العالم العربي، حيث تُستورد التكنولوجيا بوصفها
علامة على التقدم، من غير أن ترافقها ثورة فكرية أو قيمية تضبط علاقتنا بها.
بعد أكثر من نصف قرن
على صدور الكتاب، تزداد أطروحات جاك إيلول راهنية في زمن الذكاء الاصطناعي والتحكم
الخوارزمي في الحياة اليومية. فاليوم لم تعد التقنية مجرد نظام مستقل فحسب، بل أصبحت
نظامًا مراقبًا ومراقِبًا في الوقت نفسه، يختزل الإنسان إلى بيانات رقمية وسلوكيات
قابلة للتنبؤ.
لقد أدرك إيلول مبكرًا
أن الخطر الأكبر ليس في الآلة ذاتها، بل في الفلسفة التي تُشرعن عبوديتنا لها باسم
التقدم.
المراجع المقترحة
Jacques Ellul,
Le Système technicien, Calmann-Lévy, 1977.
Jacques Ellul,
La Technique ou l’enjeu du siècle, 1954.
Martin
Heidegger, La Question de la technique, 1954.
Herbert Marcuse,
One-Dimensional Man, 1964.








0 التعليقات:
إرسال تعليق