في خضمّ الموجة المتصاعدة من الحماس العالمي تجاه الذكاء الاصطناعي، تعود إلى الأذهان تجربة فقاعة الإنترنت في مطلع الألفية، حين انهارت أسهم كبرى الشركات الناشئة قبل أن تنهض التكنولوجيا من رمادها لتُغيّر وجه العالم. وفي حوارٍ يتجاوز الحدود الزمنية، يستعيد جيف بيزوس فلسفة التوازن — أو بالأحرى "التناغم" — بين الحلم والإنجاز، بين الحدس والبيانات، بين الخيال والتطبيق.
فبالنسبة له، لا يكفي أن تبتكر ما يطلبه العملاء، بل يجب أن تبتكر ما لا يعرفون بعد أنهم يحتاجونه. وبينما يتدفّق رأس المال اليوم نحو مشاريع الذكاء الاصطناعي كما تدفّق يومًا نحو الإنترنت، يذكّرنا بيزوس بأنّ الفقاعات، مهما كانت قاسية، قد تكون محرّكًا للتقدّم حين تخلّف وراءها بنى تحتية وأفكارًا تبقى بعد أن تزول العواصف.
لكنّ الابتكار يحتوي
على جرعةٍ لا تكون فعّالةً دائمًا، فهو يتطلّب وقتًا لتوليد الأفكار، وللتعلّم، وللحلم
أيضًا. غير أنّه، في المقابل، عندما تبدأ في التنفيذ، عليك أن تكون فعّالًا وأن تكرّر
المحاولة والتجريب. فهذه مراحل مختلفة لأزمنةٍ مختلفة. أحيانًا، حين تعرف وجهتك، يجب
أن تكون شديد الفعالية. والسؤال هو: كيف يمكن إحداث تناغم بين جانب الحلم وجانب البناء،
لا مجرّد توازن بينهما؟
وأنا بالمناسبة لا
أحبّ كلمة "توازن"، لأنّها توحي بالمقايضة. كثيرًا ما يسألني الناس:
"كيف تحقّق توازن الحياة والعمل؟" فأجيبهم بأنّي أفضل مصطلح "تناغم
الحياة والعمل"، لأنّ سعادتك في المنزل تجعلك أفضل في عملك، وتفوّقك في العمل
يجعلك أكثر راحةً في حياتك الخاصة. هذان الأمران لا يتنافيان، بل يتكاملان.
وهذا ينطبق أيضًا على
روح الاستكشاف والتنفيذ الحازم؛ فالاثنان لا يعملان ضد بعضهما، بل يُغذي أحدهما الآخر.
فالتنفيذ يولّد معطياتٍ جديدة وأفكارًا جديدة تساعدك على تحديد الخطوات المقبلة في
رحلة الاستكشاف. ومن هنا، نصيحتي لروّاد الأعمال الشباب هي أن يجعلوا احتياجات العملاء
هي البوصلة الدائمة التي يعودون إليها.
فأفضل ما يمكن أن أنصح
به أيّ مؤسّس أو رائد أعمال هو أن يفهم بعمق الأفكار الكبرى التي يتطلّع إليها عملاؤه.
ولا يكفي أن تسألهم عمّا يريدون، بل عليك أيضًا أن تبتكر نيابةً عنهم، لأنّ أعظم الاختراقات
الفكرية وأكثر الابتكارات أهمية هي تلك التي لا يعرف العملاء أصلًا أنّهم بحاجة إليها.
ولهذا السبب، يجب أن تحلم، وأن تستخدم حدسك وقلبك وبصيرتك.
صحيح أنّ البيانات
ضرورية، ومن لا يستخدم بياناته في عالم الأعمال سيهزمه منافسوه بلا شك، لكنّ الاعتماد
على البيانات وحدها لا يكفي، ولن يقودك إلى النصر الكبير. فقراراتك الأهمّ أثناء بناء
مشروعٍ جديد تُتّخذ بالبديهة والحدس، لا بالبرهان. قد تخطئ، ولكنك ستتعلّم وتُصحّح.
لو عدنا بالزمن إلى
قبل 25 سنة، كنت أدرس في كلية الهندسة، وكانت معجزة الإنترنت والهواتف المحمولة قد
بدأت. أطلقت آنذاك مشروعًا ناشئًا اسمه ChiaWeb،
وكان بوّابة إلكترونية مثل كثيرٍ من البوابات آنذاك، تموّلها شركات التكنولوجيا، وكان
الجميع يؤمن بأنّ التجارة الإلكترونية ستغزو العالم بسرعة مذهلة. كان الأمر مثيرًا
ومدهشًا، و"أمازون" كانت موجودة بالفعل كشركةٍ عامة في البورصة، إلى أن انفجرت
الفقاعة الرقمية.
اليوم نعيش لحظة مشابهة
مع الذكاء الاصطناعي، حيث يسود التفاؤل والحماس، وكلّ شيء يبدو ممكنًا وفوريًا. لكنّ
حدسي يدعوني إلى الحذر. ففي عام 2000، عندما انفجرت فقاعة الإنترنت، انخفض سهم أمازون
من 113 دولارًا إلى 6 دولارات في فترة قصيرة جدًا. ومع ذلك، ورغم قلق المستثمرين وارتباك
الموظفين، كنت أنظر إلى أرقام الشركة، وأرى أنّ عدد العملاء والإيرادات الإجمالية والأداء
التشغيلي كلّها كانت تتحسّن شهرًا بعد شهر.
كانت تلك تجربةً تُظهر
أنّ أسعار الأسهم يمكن أن تنفصل تمامًا عن الأساسيات. فالمستثمر الذكي "بنجامين
غراهام" قال:
«في المدى القصير، السوق آلة تصويت، وفي المدى
الطويل، آلة وزن.»
ومهمّتنا نحن روّاد
الأعمال هي أن نبني شركة "ثقيلة"، أي ذات أساسات قوية، لا أن نطارد السعر
السوقي.
حينما تظهر فقاعات،
يندفع الجميع بحماس لتمويل كلّ مشروع، الجيد والسيّئ على حدّ سواء. والمستثمرون يفقدون
القدرة على التمييز بين الفكرة الواعدة والفكرة الزائفة، وهذا ما يحدث اليوم في عالم
الذكاء الاصطناعي. لكنّ ذلك لا يعني أنّ الظاهرة غير حقيقية. على العكس، الذكاء الاصطناعي
حقيقي، وسيُغيّر كلّ صناعة في العالم، لأنّه تكنولوجيا أفقية شاملة، ستجعل الجودة والإنتاجية
في ارتفاع دائم في كلّ القطاعات: الصناعية، والخدمية، والسياحية، والتجارية… إلخ.
صحيح أنّنا لا نعرف
كم سيستغرق الانتقال الزمني لهذا التحوّل، لكنه حتمي. والأسواق المالية قد تبالغ في
التقييمات، فتُعطي مثلًا لستة أشخاص قيمة شركةٍ بعشرين مليار دولار بلا منتج، وهذا
سلوك غير طبيعي، لكنه جزء من "الفقاعة الصناعية" لا المالية. والفرق كبير
بين الفقاعتين:
الفقاعات المالية
(مثل أزمة 2008) تدمّر الاقتصاد.
الفقاعات الصناعية،
رغم خسائرها المالية، تترك وراءها ابتكارات نافعة للمجتمع، كما حدث في فقاعة التكنولوجيا
الحيوية في التسعينيات، التي أفرزت في النهاية أدويةً أنقذت الأرواح.
وبالمثل، فإنّ فقاعة
الإنترنت قبل 25 عامًا أدّت إلى مدّ كابلات الألياف البصرية حول العالم، ورغم إفلاس
الشركات التي قامت بذلك، فقد بقيت البنية التحتية واستفاد منها الجميع لاحقًا. وهكذا
سيحدث اليوم مع الذكاء الاصطناعي: قد تنهار بعض الشركات، لكن المجتمع سيستفيد من الابتكارات
التي ستبقى.
باختصار،
الذكاء الاصطناعي فقاعةٌ
حقيقية، ولكنها فقاعةٌ تُنتج مستقبلًا جديدًا.
سيكون تأثيره الصناعي
والاجتماعي هائلًا، تمامًا كما أنتجت فقاعة الإنترنت السابقة البنية التحتية للعصر
الرقمي الذي نعيش فيه اليوم.







0 التعليقات:
إرسال تعليق