الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


إعلانات أفقية

الأحد، أكتوبر 05، 2025

كيف تُعيد البيانات الوراثية تشكيل فهمنا للأداء الرياضي؟ ترجمة عبده حقي


في السنوات الأخيرة، تحوّل النقاش حول الأداء الرياضي من مجرد تحليل المهارات البدنية والقدرات ا
نية لذهإلى قراءة أعمق في ما تحت الجلد — إلى الجينات ذاتها. لقد أصبحت البيانات الوراثية جزءًا من الخطاب الصحفي حول الرياضة، تشبه في تأثيرها مرآة تكشف البنية الخفية للبطولة، وتفتح في الوقت نفسه أسئلة أخلاقية وعلمية معقدة تتجاوز حدود الملاعب.

الصحافة الرياضية المعاصرة لم تعد تكتفي بتغطية المباريات أو تحليل التكتيك؛ بل أصبحت تُقدّم الرياضي كمنظومة بيولوجية خاضعة لتقنيات الاختبار الجيني والذكاء الاصطناعي. ففي تقارير نُشرت في Nature Sports Science وThe Guardian Sport Lab عام 2024، برزت نزعة جديدة نحو تناول الجينات بوصفها "كود البطولة"، أي البنية التحتية التي تحدد احتمالات التفوق الجسدي والذهني منذ الطفولة. هذا التحول الإعلامي لا يُعيد فقط تعريف مفهوم "العدالة الرياضية"، بل يطرح سؤالًا وجوديًا حول معنى الجهد البشري ذاته في عصر البيانات.

في هذا السياق، ظهر نوع جديد من الصحافة التحليلية يوظّف أدوات العلوم الدقيقة لتفسير ظواهر اجتماعية. فمثلًا، أثارت دراسة جامعة كوبنهاغن عن "جين ACTN3" — الذي يرتبط بسرعة تقلص الألياف العضلية — اهتمام الصحافة الرياضية العالمية التي تساءلت: هل يولد البطل أم يُصنع؟ هذه الصياغة الصحفية، على بساطتها الظاهرية، تُخفي خلفها معضلة فلسفية: إلى أي مدى يمكننا اختزال الإنسان في معادلة جينية؟

وكما كتب عالم الاجتماع ديفيد لودن في كتابه The Gene Myth and Modern Sports (2021):  كل قراءة جينية تحمل في طياتها خطر تحويل الرياضي إلى منتج بيولوجي مصمَّم مسبقًا». وقد التقطت الصحافة هذا التحذير لتبني سردية أكثر نقدية توازن بين العلم والإنسان.

من الناحية الإعلامية، تشكل التغطية الجينية ميدانًا بالغ الحساسية. فالتقارير التي تتناول "الاستعداد الجيني" للأداء يمكن أن تفتح الباب أمام نزعات عنصرية أو طبقية جديدة تُشرعن التمييز في الاختيار والتدريب. مثال ذلك الجدل الذي أثارته صحيفة El País الإسبانية في تقريرها عن الأكاديميات الرياضية التي تُجري اختبارات وراثية للأطفال لاختيار "النجوم المحتملين". هذا النوع من الممارسات أعاد إلى الأذهان الأيديولوجيات التي سعت إلى تصنيف البشر وفق “نقاء” أو “تفوق” بيولوجي — وهو ما جعل كثيرًا من الأصوات الحقوقية تدعو إلى ميثاق عالمي يحظر استخدام البيانات الوراثية لأغراض تجارية في الرياضة.

لكن في المقابل، هناك بعدٌ إيجابي لا يمكن إنكاره: استخدام البيانات الجينية في الطب الرياضي الوقائي. فقد مكنت التحاليل الوراثية الأطباء من فهم أسباب الإصابات المزمنة، وتخصيص برامج تدريبية تتلاءم مع البنية الجينية لكل لاعب. وهنا تتقاطع التغطية الصحفية مع البحوث العلمية في بناء سردية أكثر توازنًا: سردية لا تُمجّد الجينات ولا تُشيطنها، بل تُبرز دورها كأداة لفهم التنوع الإنساني داخل الملعب.

ففي تقرير نشرته BBC Future (2023)، ورد أن أكثر من 40% من الأندية الأوروبية الكبرى بدأت تعتمد تحاليل الجينات ليس لاختيار المواهب، بل لتقليل خطر الإصابة وتحسين التعافي العضلي. هذا الاستخدام العلمي الرشيد غيّر أيضًا زاوية المعالجة الصحفية، إذ بدأت المقالات تتحدث عن "البيانات كمدرب خفي" و"الحمض النووي كلاعبٍ إضافي في الفريق".

الصحافة في هذا المجال تواجه تحديًا مزدوجًا: فهي مطالبة بالحياد العلمي وبالوعي الأخلاقي في آن واحد. فلا يكفي أن تنقل نتائج الدراسات الجينية، بل يجب أن تُخضعها للسياق الاجتماعي والثقافي. فالتفوق الرياضي، في النهاية، ليس معادلة بيولوجية صرفة، بل منظومة معقدة يتداخل فيها التدريب والبيئة والتحفيز النفسي والهوية الثقافية.

وقد عبّر عالم الوراثة الكندي James P. Watson Jr. عن هذا التوازن بقوله: «الجين يفتح الباب، لكن الإرادة وحدها تعبر العتبة». وهنا تكمن مهمة الصحفي: أن يُحوّل هذا الباب العلمي إلى نافذة للنقاش العام حول معنى الإنسان في زمن يُعاد فيه تعريف الجسد والعقل عبر الخوارزميات.

إن التغطية الصحفية للبيانات الوراثية في الأداء الرياضي تمثل اليوم مختبرًا مفتوحًا لاختبار علاقة الإعلام بالعلم، ولإعادة التفكير في أخلاقيات المعرفة في عصر يُعاد فيه تعريف البطولة والجهد عبر شفرات الحمض النووي. ولعل السؤال الأكبر الذي يواجه الصحافة في هذا السياق ليس فقط: "من يملك الجين الأفضل؟" بل "من يملك الحق في تفسير الجين؟"

هنا يصبح الخبر الرياضي مرآةً للوعي الإنساني ذاته، يُذكّرنا بأن البطولة الحقيقية لا تُورَّث في الدم، بل تُصنع في الوعي.

0 التعليقات: