يبدو المشهد الثقافي المغربي في نونبر 2025 وكأنّه يختبر طاقته القصوى على جمع المتباعدات: بين مدينةٍ تُحاور تراثها العريق بمفاتيح رقمية، ومدينةٍ تُحمّل شاشة السينما أسئلة العبور والاندماج، وأخرى تُعيد توزيع موسيقاها على أمواج جماهير جديدة، ورابعةٍ تعيد المسرح إلى شعريته الأولى. هذه الصورة ليست مجرد أجندةٍ متفرقةٍ من الفعاليات؛ إنها، قبل ذلك وبعده، سرديةٌ وطنيةٌ تُعيد تعريف الثقافة باعتبارها موردًا استراتيجيًا يُغذّي الخيال العام وينعش الاقتصاد الرمزي، ويُعيد تثبيت المغرب في خريطة المتوسط وإفريقيا لاعبًا ثقافيًا لا يكتفي بالتمثيل بل يشارك في صناعة النماذج.
في الرباط، يخرج التراث من بلاغته التذكارية ليلبس لغة المختبر. فبرنامج “المتطوّعين من أجل التراث العالمي” الذي أطلقه كرسي اليونسكو بالجامعة الدولية بالرباط يقدّم دروسًا عملية في تحويل المواقع الأثرية إلى منصّات تعليمية مفتوحة على وسائط الواقع الافتراضي والتلعيب. لا يعني ذلك مجرد تحديث أدوات العرض، بل إعادة تعريف علاقة الأجيال الصاعدة بالآثار: أن تكون “شالة” و“الأوداية” فصلين حيّين في كتابٍ مفتوح، وأن يتعلّم الطالب كيف يقرأ الحجرَ بعيونٍ رقمية دون أن يفقد حسّه اللمسيّ بالتاريخ. هنا يتقاطع البيداغوجيّ بالإثنوجرافيّ، ليرسم بورتريه لمنظومةٍ ثقافيةٍ ترى في التراث رأسمالًا معرفيًا لا أرشيفًا معزولًا. هذا الجهد يُعلي من شأن “التعليم الثقافي” بوصفه استثمارًا في المستقبل، ويحوّل “التطوّع” إلى تقنية مواطنةٍ فعّالة، تُدخل المجتمع المحلي في صناعة المعنى لا في استهلاكه فقط. مغرس
أمّا وجدة، فتلقي حجرتها في بركة الصورة. مهرجان السينما والهجرة ليس مجرّد تظاهرةٍ فنّيةٍ تعقد شراكات وتوزّع جوائز، بل هو تمرينٌ على ترويض المفاهيم الكبرى—الهوية، الانتماء، الاندماج—عبر سردياتٍ شخصية تطفو على سطح الشاشة لتكشف طبقاتٍ خفيّةً من الحياة. الهجرة هنا ليست مغادرةً جغرافيةً فحسب، بل هي حركةُ معنى: انتقالُ الذكريات، وتناسلُ اللغات، وانكسارُ الصور النمطية. ولأنّ الفن السابع يمتلك قدرةً فريدةً على إدارة التعاطف، فإنّ المهرجان ينجح في تحويل القاعة إلى مختبرٍ اجتماعيٍّ دافئ، حيث يعيد الجمهورُ كتابةَ قصصه على ضوءٍ جديد. في مثل هذه اللحظات يتأكد لنا أنّ الثقافة ليست ترفًا، بل هي الأداة الأشد نجاعةً لترميم الثقة العمومية ولمداواة الانقسام الرمزي الذي تُحدثه التحوّلات الكبرى في حياة الشعوب. مغرس
على الساحل الأطلسي، تتشابك أصوات العيطة مع نبض المدينة الحديثة. “عيطة بلادي” في الدار البيضاء يقدّم درسًا آخر في المصالحة بين الذاكرة الشعبية ومتطلّبات الذائقة الجديدة. ليس المقصود استدعاء الماضي بوصفه فلكلورًا مُعلّبًا، بل فتحه على إمكان التحديث: لقاء رموز التراث بمبدعين معاصرين، على منصّةٍ واحدة، بلا توتّرٍ بين “الأصالة” و“المعاصرة”. هذه العودة الذكيّة للأغنية الشعبية—بإيقاعها الشفهيّ، وبنيات نَسَبها التي تحفظها الحناجر—تمنحنا فرصةً لنرى كيف يمكن للمدينة الكبرى أن تهذّب صخبها بسُلّمٍ خماسيٍّ يذكّر بأنّ الموسيقى كانت دائمًا الأقدر على جمع الناس حول معنى مشترك. مغرس
في الرباط مجددًا، يثبت “فيزا فور ميوزيك” أنّ المهرجانات ليست مجرّد حفلات؛ إنها أسواق ومختبرات و“شبكات”. فبين 19 و22 نونبر، تصبح العاصمة ملتقى لمهنيّي الموسيقى من إفريقيا والشرق الأوسط، حيث تنتقل العلاقات من الافتراضي إلى المادي، وتُبنى الجسور بين الأستوديوهات ومنصّات التوزيع والجمهور. هذا النوع من المنصّات لا يعزّز صناعة الموسيقى فحسب، بل يراكم خبرةً تنظيميةً وتقنيةً محتاجةً إليها بقية الحقول الفنية. إننا هنا أمام سياسة ثقافية تتقدّم عبر الفعل—عبر الاحترافية التي تضع التخطيط والتمويل والدعاية والتكوين في منظومةٍ واحدة، وتعتبر الفنان صاحب مشروعٍ اقتصاديٍّ أيضًا. هكذا يتقاطع الفن مع ريادة الأعمال، ويتحوّل الشغف إلى سلسلة قيمةٍ قادرةٍ على خلق الشغل وتوليد الدخل. مغرس
وللفنون البصرية كلمتها عبر معرض أيمن بوفراكش “بين قارتين”، حيث تتوالد الصور من تربةِ الانتقال. فالفنان القادم من طنجة والمقيم بإسبانيا يحاور ثنائية “الواقع/الخيال” و“التقاليد/الحداثة” في رؤيةٍ تشكيليةٍ تُشعر المتلقي بأنّ الهوية ليست معطًى جاهزًا بل سيرورةُ تكوّن. في تجربةٍ كهذه تتجلّى وظيفة الفنّ في وضع الأسئلة حيث اعتدنا الأجوبة، وفي رسم الجسور حيث توهّمنا القطيعة. المعرض يقدّم للمشهد التشكيلي المحلي طاقةً شابّةً تتقاطع مع المسارات العابرة للحدود، وتمنح الجمهور نافذةً على أنفسهم وهم يتبدّلون. مغرس
على خشبة المسرح، تُثبّت تطوان وزنها النوعيّ بدورةٍ 25 تُعلن بوضوح أنّ الجودة أولى من كثرة العناوين. لائحة العروض المنتقاة تُشير إلى تنوّع الجغرافيات المسرحية المغربية، وإلى نزوعٍ متزايد نحو الابتكار في الكتابة الركحية والسينوغرافيا وتدبير الإيقاع. المسرح هنا ليس حفلةَ احتفالٍ سنوي، بل تمرينًا جماعيًا على تخيّل مجتمعٍ أكثر عدلًا وأناقةً في التعبير؛ إذ تتورّط الخشبة في مسائل العمل والذاكرة والتحوّلات الاجتماعية، من دون أن تفقد جماليات اللعب وأخلاقياته. إنّ عودة المسرح إلى قلب النقاش الثقافي إشارةٌ على تعافي الذائقة من الاستسهال، ورغبةٌ في منح “الفن الحيّ” ما يستحقّه من وقتٍ وتفكير. مغرس
وفي الشمال، تفتح تطوان ورشةَ ذاكرةٍ مغربية–أندلسية، عبر ندوةٍ علمية تُعيد ترتيب العلاقة بين الماديّ واللامادي: عمارة، موسيقى، عادات، ومخزون لغويّ ومعرفيّ يتجاوز الاحتفال إلى الفهم. إنّ استعادة هذا الإرث ليست حنينًا منزوع السياسة؛ إنها تمرين على سيادةٍ رمزيةٍ تُثبت أنّ المغرب كان وما يزال ملتقى حضارات، وأنّ القوة الناعمة تبدأ من مدرسة التاريخ الحيّ. مغرس
إذا جمعنا هذه اللوحات، سنحصل على صورةٍ أكثر اتساعًا: ثقافةٌ تتقدّم بالبُنى والتخييل معًا. فالمشاريع المؤسسية (اليونسكو/الجامعة الدولية) تعيد بناء الصلات بين التعليم والثقافة، والمهرجانات (السينما/الموسيقى/المسرح) تُنمّي رأس مال الثقة وتدفع بالاحترافية، والمعارض التشكيلية تُحدّث أسئلة الهوية في زمن التنقّل. ليست المصادفة وحدها من جمعت هذه الأحداث في نونبر؛ هناك مزاجٌ عامٌّ يفضّل تحويل المناسبات الوطنية إلى طاقةٍ تنظيمية وثقافية (خمسينية المسيرة الخضراء، مثلًا، تُنعش موضوعات الذاكرة والترحال والاندماج في أكثر من مدينة). هكذا تتماسك العناصر: تعليمٌ ثقافيٌّ نشِط، صناعاتٌ إبداعيةٌ تنمو، ذاكرةٌ تُعاد كتابتها بوسائط جديدة، وجمهورٌ يتدرّب على “الذهاب إلى الفنون” كما يذهب إلى الحياة.
يبقى التحدّي مضاعفًا: أولًا، تعميق التنسيق بين الفاعلين (وزارات، جماعات ترابية، جامعات، مؤسسات خاصّة، مجتمع مدني) لئلّا تضيع الجهود في جزرٍ متباعدة؛ وثانيًا، تحويل الفائض البرنامجي في نونبر إلى تقويمٍ سنويٍّ موزون، يتدرّب على الاستدامة: تكوين، أرشفة رقمية، تقييم الأثر، وسياسات تواصل تراعي الجمهور المحلي والسائح الثقافي معًا. ذلك أنّ الفعاليات الكبرى تكسب معناها حين تُخلّف وراءها منظوماتٍ صغيرةً قادرةً على العمل بعد انطفاء الأضواء.
إنّ “نونبر المغرب الثقافي” ليس خبرًا عابرًا في أعمدة الجرائد؛ إنّه مختبر سرديٌّ نعيد فيه ترتيب علاقتنا بالزمن: نقرأ الماضي بعيونٍ مبتكرة، ونصنع الحاضر بتقنياتٍ محترفة، ونستشرف المستقبل بثقةٍ تُراهن على شبابٍ يملك مفاتيح اللغات الجديدة. وبين مدينةٍ تُصلّي في معبد المسرح، وأخرى تُصغي لصوت البحر وهو يغنّي العيطة، وثالثةٍ تقيم جسورًا بين حجرٍ قديمٍ وشاشةٍ لامعة، تتكوّن حكايتنا المشتركة: ثقافةٌ تحرس الحياة وتُثريها، لأنّها ببساطة “اقتصادُ معنى” لا يكسد.
خلاصة توقيعي:
إذا كانت الأممُ تُقاس بقدرتها على تحويل مواردها إلى قيمٍ مضافة، فإنّ المغرب، في نونبر هذا، يقدّم نموذجًا عمليًا على كيف تصبح الثقافةُ موردًا استراتيجيًا لا يُؤجَّل: تُعلّم، تُنعش الصناعات الإبداعية، تُعزّز صورة البلاد، وتمنح الأفراد معنى أوسع للعيش المشترك. ولعلّ الخطوة التالية هي أن نُدخِل هذا “النموذج النونبريّ” في تقاليدنا التنظيمية، فنصير، عامًا بعد عام، أكثر قدرةً على صناعة مواسم ثقافيةٍ تُشبهنا وتُشبه العالم الذي نحلم به.







0 التعليقات:
إرسال تعليق