عضة الأدب من وليمة النت :عرض : فرانسوا بون
هل حان الوقت كي نعترف أننا انفقدنا ؟ كيف لانقر بهذا .. في حمأة هذه السرعة المذهلة والمدوخة …
فلم يتبق لدينا شيء عدا القليل من الإمكانيات التي هي بدورها تسير نحو مستقبل غامض ومجهول …
إن هذا التحول الإعلامياتي لهو في حجم التحول التاريخي لاكتشاف غوتمبورغ ، وكما نعلم فإن الوسائط التقليدية التي أسهمت كثيرا في تداول المعرفة والعلم ( الصحافة ، المسلسلات ، كتاب الجيب ) لم تكن لها نفس الرجة التي أحدثها زلزال النت الذي يحاصرنا اليوم من كل جانب… وأخيرا علينا أن نقربأنه ليس لدينا خيارآخر فالمعطيات الواضحة التي تختزل هذه الظاهرة الكونية نجهلها غيرأن ما هوأخطر هوأن نبقى خارج السياق ولانقبل بهذا الزلزال النتي .
هناك العديد من المجالات التي اقتحمت هذه المغامرة الغامضة ، خصوصا في ميدان العلوم ، فحتى الموسيقيين هم كذلك انخرطوا في هذه الطفرة المعلوماتية . وقد بات من الواجب علينا إذن واقتداءا بهم أن نبحث عن حظنا في هذه الوليمة النتية..
لامراء في أن الكتاب سيبقى منتوجا لما تزل المعلوميات تحلم باستثماره .. في بساطته .. في مادته .. في علاقته بالذاكرة : ( كيف يمكننا تفضية جملة في صفحة.. صفحة في حجم كتاب .. وكتاب في حجم رفوفنا وسرادقات مكتباتنا .. هذا الحلم الرائع ونحن تحت سقف ظليل في صالون جديد داخل المكتبة … ومهما يكن فإن الإعلاميات لن تجعل على كل حال من الكتاب منتوجا انتهت مدة صلاحيته .
قد يبدوالآن للبعض أن الورق الرقمي غير مقنع … وأن وسائل القراءة الرقمية أقل جمالية من كتاب باذخ ، لكننا بعد كل شهرأو شهرين تقريبا نلمح ونلاحظ هذا التقدم المذهل للورق الرقمي المطواع والقادر بسحره على تخزين قاموس أونص أوجريدة يومية … وهذه الآلة العجيبة ( Disque dur ) ، هذا الصندوق الأسطواني ذي الرفوف الثلاثة الذي يمكننا من الإبحارالغريب بين الكتب والصفحات الإلكترونية .
لقد تجاوزنا الكتابة على سند مسطح وأعدنا اكتشاف اللفافة من جديد ، فهذه الأحلام والأشكال التي تذهلنا قد تضمنها الأدب من قبل بكل تأكيد ، ليس عند بورجيس فحسب حيث المكتبة الرائعة ذات التوليفة المنتظمة ولكن أيضا في ( كتاب الرمل) حيث الصفحة متجددة باستمرار وقابلة كذلك للمحو، وهذه الكويرات السبعة عشر في الأبجدية العبرية (Alef) حيث بإمكاننا أن نرى من خلالها العالم كله إن مفهوم الصفحة سابق على اختراع الكتابة : الورق الرقمي سواء تخلص من الشاشة أم لا فبإمكانه
أن يعلمنا القراءة ، إلا أن الإحتفاظ بالنص وإيداع حمولته وكل ما يعلمنا مراكمة الحكمة عن طريق النص والإنتقال من وضع إلى وضع آخر بشكل فجائي ، فالكتاب لم يكونوا مستعدين ومهيئين له بما فيه الكفاية…
وما يقلقنا اليوم هو مستقبل تاريخنا الفكري المرتهن في قلب المئات الآلاف من الكتب القديمة والحديثة
وما يرعبنا أيضا هو مصيرنا نحن الذين تشكلت هوياتنا من مضامين ومتون هذه الكتب … لنتخيل أن كل هذا الصرح تهدم وتبخر بمعنى أوضح أننا وبشكل أوتوماتيكي تهدمنا وتبخرنا معه ، وكل المؤشرات في الأفق تلمح لما هوأسوء…
وما يرعبنا أخيرا هوهذا الخطرالذي يحذق بالكتاب … لامراء أن القراءة فعل انفرادي وهي أيضا فعل التقاء الذات بذاتها بعيدا عن العالم من حولها ، غيرأن السبيل إلى هذا الإلتقاء بالذات يتطلب سلسلة من العمليات تتجلى في : ( النشر ، الإختيار ، التصحيح ، الطباعة ، فضاء المكتبة…إلخ ).
فكم من الكتب الهامة لم يكن بوسعنا قراءتها لولا مساعدة الكتبيين ؟ وكم من الكتب المدهشة اكتشفناها على رفوف مكتباتهم ؟ وكم من الكتب وضعوها بين أيدي مؤلفين … كيف أمكن مثلا لعملي الأدبي أن يشق طريقه له لولا تدخل الكتبيين؟ إن هذا التقاطع والتلاقي الفكري والإهتمام بالأعمال الأدبية هو بالضبط ما جعلني منذ عشرين سنة أنشر كتبي وعلينا ألا ننسى أنه في غالب الأحيان كل هذا الفعل القراءاتي ينطلق من فضاء المكتبات .
إن كل تفكير في إسترخاص أوإهمال هذه السلسلة المطبعية المعقدة هو في الوقت نفسه تنازل إن طوعا أو كرها لما سوف يغمرنا من سرعة وقوة اتفاقنا جميعا على كون الكتاب هو في النهاية منتوج كباقي المنتوجات الإستهلاكية .
من بين إمكانات عالم النت أننا ونحن في البيت يسهل علينا مثلا معرفة ساعة وصول القطار ، أو رقم هاتف طبيب أخصائي ، يكفينا فقط أن يكون جهازالكومبيوتر موصلا بالكهرباء والصبيب النتي كما يمكننا أن نطلع على أخبارالعالم كله ونقرأ المقالات على صفحات الجرائد الإلكترونية … فقد صار زمن النت في ظرف وجيز زمنا عائليا ، بيتيا بامتياز ليس على حساب زمن القراءة في شكلها التقليدي
فحسب بل زمنا مستقطعا من زمننا الإجتماعي الحميمي ككل علينا أن نلغي كلمة إبحار( surfer ) من قاموسنا اليومي ، إن ما نبحث عنه في كوسموس النت هوعالمنا الصغير والضئيل الذي نشيده بأيدينا ، وإذا كان فضاء المكتبة صدى لما يعتمل في المدينة ومكانا للمستجدات المطبعية والإختيارات والإقتراحات حتى ، فإنه في كل الأحوال لن يبخس من أهمية تلقينا وتلقيننا بواسطة اللغة والحضورالفيزيقي الواقعي في الفضاءات الخاصة بها ، والنت هو بدوره يعتبررابطا ضافيا فإذا ما اقتنيت إصدارا جديدا فلأنني قد تلقيت خبر توزيعه عن طريق مايل وارد من مكتبتي المفضلة …
إن الخطأ إذن يكمن في حديثنا عن كوسموس النت بمعزل عن سياقاته أوباعتباره مسؤولا عن كل هذه الإنهيارات الحالية أوالقادمة. وكل هذا الوضع الثابت والمستقرمنذ أمد طويل يعود أساسا إلى التركيزالصناعي وإلى نهم تجارالأسلحة الإعلامية الفتاكة بله إلى التغييب الممنهج للثقافة والأفكار كقيم حضارية .
والكتاب باعتباره تجزية للوقت قد يبدو من الوجهة الإقتصادية غير ذي جدوى ومع هذا فإن أقل حصة ربح مازال يكسبها في الوقت الحاضر هي أيضا يتهددها الزوال في المستقبل .ولايوجد اليوم كاتب أو مجلة أوناشر مستقل يمكنه أن يتظاهربالطمأنينة ويثبت على أن المشهد المطبعي وسوق الكتاب مستقر وغير مهدد بخطر ما …
إن تناقض النت هو في عدم قبوله بفكرة أن الكتاب هو قدرالكتابة الوحيد إلا أنه في جانب آخر يقدم لنا خطابا حقيقيا بكوننا نمرر جملا ما على شاشته الفضية ، وهذه وسيلة كافية لجعل اللغة مهيمنة على العالم ولذا فالنت ليس ثورة لذاته : إن الشعرالذي تم إقصاؤه إقتصاديا من مشهد الإصدارات والنشر قد عرف كيف يشيد فضاءاته للتبادل حيث القراءات والإنشاد تغلبا بشكل أوبآخرعلى هذا الإقصاء …
بؤس اللغة إذن هو ما يشغل كليا عالم النت ومجموع الأفكارالتي تروج في العديد من المدونات ( Blogs ) لن ينافس ما هو مخطوط مثلا على ثلاثين صفحة من كتاب (دولوز) أو( ديريدا) لكن أن يكون موقع ( دولوزمن بين أقدم المواقع الإفتراضية للغة الفرنسية فليس ضربة حظ أن يبقى فعالا ، لذا علينا أن نستغل الفضاء الإجتماعي الذي فتحه النت بواسطة اللغة وعلينا العمل أخيرا على جعله نشيطا ومفيدا وإلا فسيكون مدمرا …
هناك في عالم النت حيث العلماء والموسيقيون والفنانون إستطاعوا إمتلاك وسائلهم العملية تدريجيا منذ مدة طويلة بينما بقي الكتاب مكتفين بالمعطيات الثابتة ، المقترحة لدى الناشر كما لو أن أيديهم ستتسخ أوأن كلماتهم ستهزل إذا ماهم أطلقوها في فضاء الشبكة النتية … والكتاب يعتبرون أن النت وسيلة ضافية وزائدة على المجال السمعي ــ البصري بينما قد تقوي العلاقة بين الشاشة والشبكة النتية حضورهم الفعلي في العالم وفي الطريق التي بموجبها تنتظم علاقات المجموعات …
يطالبنا البعض بتحرير كتاباتنا على الشبكة النتية والإشتغال في حقولها مثلما نشتغل على كتاب ما ويطالبوننا كذلك أن ننقد هذه الكتابات من منطق سوق النشر الورقي ، وهذا تناقض صارخ لأن الدينامية والتبادل التجاري هو ما تقوم عملية النشر ويساهم في القيمة الرمزية للنص . وعلينا أن نبحث عن نفس التكامل والمتطلبات التي توفرها شبكة النت ونفس السبل الإقتصادية للنشرعلى المواقع النتية وعدم تركها تكتفي عدا إكتفائها ببعض الوصلات الإشهارية التي يقترحها مروجوا الكتب على المواقع الإلكترونية والتي كنت دائماأرفضها .
الكتابة على النت تثيرأيضا تناقضات أخرى : فالنت يشتغل على مبدأ التجدد المستمر بينما الكتابة تتطلب بعضا من الوقت وتشتغل من جهتها بمبدأ استمرارية النص ولنسق هنا على سبيل المثال ( أزهارالألم )
(les fleurs de mal) إن كل كتابات بودلير لاتنتظم بطريقة مختلفة عما نراكمه على القرص الصلب ( Disque dur ) بخطاطات متشابهة وبالطريقة التي تمكن موقعا ما من مواكبة أعمالنا أولا بأول ، إن الفرق فقط هو في جانب النشر فقط .
أجل لقد انفقدنا وبتنا نشعر بالقلق ، فعالم النشربات كبناية من ورق نرجها ونزلزلها بأيدينا ومن تلقاء أنفسنا وسوق النشر وإنتاج الكتاب ما فتئ يتضاعف تلويثه من عام لآخر واليوم وكما نلاحظ يجب التسديد نقدا كل أسبوع كيما تجد كتبنا مكانا لها في أكشاك محطات القطارات ، وكل ما يتعلق بالقراءة الورقية بات يدورفي دوامة خطيرة … كما أن نفس الخطر بات يتهدد أيضا الصحافة ، فهل يعود هذا إلى اجتياح النت ؟ أعتقد أن النت بريئ وغير مسؤول عن ذلك ، إن الفكرالنقدي هوالذي فقد دوره في المجتمع بما يشوب هذا المجتمع من فردانية مغرقة ورغبة طاغية في بيع كل شيء وأشياء أخرى تأتي كلها في المقدمة قبل التفكير في حمولات الكتب من محتويات وأفكار ومعرفة هامة .
وأؤكد مرة أخرى أن عالم النت عالم شفاف وهو لامحالة سيضفي مسحة رائعة على علاقاتنا المعقدة بالواقع ، إنها مسحة ستسهم ولا شك في تغييرعلاقاتنا بالزمن والفضاء واصطداماتنا الفجائية بالواقع غيرأن الكتابة على صفحة الحاسوب بالرغم من جدتها فهي لن تستطيع أن تسكت صيحة النشوة عند ( رابلي) (Rabelais ) سنة 1532 .
إن الواقع يتصدع ، والأسئلة المرتبطة بعالم الكتب وبالمعلومة ( L’information ) التي باتت تعوض الحكمة والمعرفة بالمال الذي أصبح عقيدة ، بالديانات في عماها والعميان الذين يشعلون الحروب ، فالنت مرتبط بكل هذا لأنه يشبه عيوننا وأيدينا ولهذا بتنا نخاف على المستقبل أكثر مما نخاف على الماضي .
لقد بتنا نخشى ونقلق لأننا نعشق الكتاب كثيرا ، نعشقه من أجل تمزيق سترة اللغة والذهاب عراة في الطقس البارد وفي الليل .. إننا لا نرغب في أن نترك خلفنا كافكا ومونتاني وديريدا وسانسيمون وميشو وسيلين : إنهم جميعهم يجعلوننا نقدرأنفسنا والخيارالوحيد لدينا هوإنخراط الأدباء في عالم النت .. وأقول : أدخلوا إلى غوغل وستستمعون إلى بييرغونيو يتحدث عن الأدب ، هذا الكاتب الذي لم يكن يتوفر يوما ما على عنوان ( مايل ) وعلينا أن نعمل على جعل النت في خدمتنا .. ولنجعله أنترنيتا يطمح كي يصيرممتعا مثل عالم الكتب .
ودعونا نفكر قليلا في ( داني هارمس) أو ( مادليستام) هذا الكاتب الذي أغتيل سنة 1942 في ذروة هيجان الستالينية حيث تمكن أحد أصدقائه من إنقاد مخطوطته التي لم تنشر إلا سنة 1970 باللغة الأنجليزية ثم بالألمانية ، فلو لم يتم طبع هذه المخطوطة لما كان ( مادليستام ) من بين أشهرالأدباء الروس المعاصرين … فالنت بالنسبة لي هوهذه الحقيبة التي هربها صديق ( ماديلستام ) ، إنها الإمكانية التي يمكن للأدب أن يعض عليها بالنواجد لأن العالم الذي نصنعه كثيرا ما لايوافقنا ولقد أوشكنا أن نحرم مما تبقى من الإرث الفكري .
أخيرا هل هناك من داعي للقلق لوفتحنا أعيننا جيدا وسهرنا الليالي نفكر ونتأمل فيما تمنحه لنا شاشة الكومبيوتر، فلنرتبط ولنتعلق بكل ما يمكن أن ينقد الناشرأوالكتبي وعلينا من جهة أخرى أن نطعم عالم النت بما يفيد القراء والمبحرين وألا نتركه عرضة لأيدي المخربين في العالم أجمع .
عرض : فرانسوا بون
0 التعليقات:
إرسال تعليق