الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الأحد، أغسطس 16، 2015

القصة القصيرة بين الفانطاستيك وأزمة التلقي

القصة القصيرة بين الفانطاستيك وأزمة التلقي
في البداية هل يمكن القول إن إثارة هذا الموضوع في المرحلة الراهنة من تطور الكتابة القصصية ببلادنا يعد تساؤلا منطقيا وملحا، هذا من جهة، ومن جهة أخرى ألا يمكن اعتبار هذا التساؤل في حد ذاته دعوة لوقفة من أجل النبش ومراجعة واقع هذا الفن الذي صار ينزلق في ما يسمى بالتجريب خصوصا على مستوى القصة / اللحظة الفانطاستيكية كما سنرى فيما بعد.
هناك أسباب عديدة دفعتني كمهتم بهذا المجال إلى مقاربة هذه الإشكالية ويمكن إجمالها كالآتي:
1-    عزوف "القارئ المتوهم" عن النصوص القصصية الفانطاستيكية خصوصا منها الصادرة بالملاحق الثقافية للجرائد الوطنية أو غيرها من منابر الإبداع على العموم.
2-    تطور التجريب على مستوى اللحظة الفانطاستيكية أوقع القصة عموما في نفس المنزلق الذي سقطت فيه القصيدة الحديثة باعتمادها تقنيات كتابة حداثية تجاوزت بعشقها الوثني حدود قدرات الاستيعاب عند المتلقي.
3-    إثارة ذات الإشكالية ضمن نص قصصي لأحد رواد القصة القصيرة ببلادنا ويتعلق الأمر بالكاتب إدريس الخوري في نص قصصي صدر له بالملحق الثقافي لجريدة الاتحاد الاشتراكي عنوان "كلية الآداب" ومماجاء فيه "لقد نزل الركاب وتشتتوا ولم يبق إلا هو وحيدا إلا من حقيبة جلدية صغيرة وخشنة بلاستيك تحتوي على عشرين نسخة من كتابه الذي يرفض النقاد الكتابة عنه لأنه يفتقر إلى التخييل وإلى الفانطاتستيك".[1]
هل يعد هذا إذن كافيا وشهادة دامغة كما يقال على جدية الموضوع وحساسيته كونه يضمر صراعا بين التجريب وبين السكونية وبصيغة أخرى بين جيل الرواد وبين جيل المحدثين (الفانطاستيكيين) لكن قبل مقاربة هذا الموضوع تواجهنا منذ البداية إشكالية أخرى تتعلق بتحديد المصطلح الذي يأخذ تلوينات وصيغا متعددة في كثير من الدراسات النقدية يمكن أن أعتبرها (فوضى) اصطلاحية، فهناك نص فانطاستيكي ونص غرائبي ونص عجائبي ولماذا لا أقول كذلك نص خوارقي باعتماد نفس القاعدة الاشتقاقية (غرائب –خوارق، خوارقي) أما فيما يخص مصطلح فانطاستيكي فهو منقول عن الفرنسية.
بخصوص هذه الفوضى في تحديد وتوحيد المصطلح يقول الأستاذ سعيد يقطين:
"تشيع الآن مصطلحات عديدة مثل الفانطاستيك –الوهم- العجيب –الغريب –الخارق.. وللأسف يظل الإبهام يسود استعمال العديد من هذه المفاهيم وما يدخل في نطاقها والتي توظف كمقابلات:
                 FANTAS-FANTASTIQUE MERVEIL-ETRANGE-Y-YEUX[2]
ويضيف في نفس السياق "أفضل العجائب" و"العجائبي" على الفانطاستيك" وأحملها المعنى الذي يمكن استنتاجه منخلال الاستعمال العربي رغم اتساعه ويمكن التدقيق بتوظيف الأنماط الفرعية للتمييز التي وظفها العرب أيضا مثل الغريب –المطرب- البديع.[3]
هذا التباين اللفظي يجعل مقاربة النص القصصي ملتبسة بالأساس فهل النص الفانطاستيكي هو النص العجائبي؟ وهل النص العجائبي هو النص الغرائبي؟ وهل النص الغرائبي هو النص الخوارقي؟ إلخ. فإذا كان الفانطاستيك هو الذي يقابل (العجائبي) يقع بين (الخارق) و(الغريب) محتفظا بتردد البطل بين الاختيارين كما يحدد ذلك (تود دوروف)[4]. إذ يجعل من المحكي نصا معقولا حيث تتهدم داخله كل الأنساق والصور المألوفة والعوامل الطبيعية في ذهنية المتلقي أو القارئ المحتمل الذي يفتقر إلى أدوات خارج –نصية.[5]
لقد قسم الأستاذ محمد برادة القصص إلى أربع مجموعات وقد جعل القاسم المشترك في التقسيم هو "اللحظة" فهناك لحظة تستعيد (اللحظة الاستذكارية) واللحظة التي تكشف وتعري عن واقع ما سماها (اللحظة الكاشفة) واللحظة التي تجابه موقفا ما وسماها (اللحظة المجابهة) وأخيرا اللحظة التي تتخيل وتتجاوز الممكن إلى اللاممكن والمستحيل وسماها (اللحظة الفانطاستيكية)، وضمن هذه اللحظة خمس قصص هي بالتتابع (الأطوروت) لمصطفى المسناوي (مثل وجه مثل كل الوجوه) إدريس الخوري، (العين والزلزال) لأحمد بوزفور، (حكاية حب صغيرة، لأبي يوسف طه، وأخيرا (الكلام عن الذباب ممنوع) لمحمد شكري، ويمكن إجمال ملاحظات الأستاذ محمد برادة حول هذه النماذج القصصية كونها توهم بواقعية الفانطاستيك "تؤكد أن ما يبدو فانطاستيكيا لأول وهلة إنما هو شيء عادي مساوي للأواليات المستترة المتحكمة في الأرض والعباد".[6]
لكن إذا كان كلام الأستاذ محمد برادة صائبا ووجيها إلى حد ما، باعتبار أن الكاتب يبني عالمه القصصي من تراكمات الذاكرة، ذاكرة تستقل عنه ولكن به، تستقل حاملة أثرا دلاليا للمرجعية التي منها انهضت العلاقة بين الكاتب والواقع المادي الاجتماعي، وتحولت إلى ذاكرة، فلمن نعزو منزلق أزمة التلقي واضطراب العلاقة التواصلية (علاقة القارئ بالمقروء) على مستوى القصة الفانطاستيكية (فما دام مالنص القصصي خطابا مثل باقي أنواع الخطابات الأخرى فهو في حاجة لمخاطب يتلقاه ويستفيد منه وبدونه يفقد السرد معناه باعتبار المسرود له هيئة تلفظية تنبعث مع الهيئة الأولى، السارد. إلا أنه بالرغم مما لهذه الشخصية (المسرود له) المتخيلة من أهمية في صنع الخطاب السردي فإن الاهتمام بها ظل محدودا وضئيلا إذا ما قورن بحجم ما للدراسات التي خصت بها شخصية السارد[7] وإذا كنا نعتبر القارئ جزء من فاعلية الكتابة كما أسبفنا قبل قليل فالكاتب مدعو إلى التفكير أكثر في هذه العلاقة التي يحتم وجودها بشكل خاص النصوص التي رهنت بناءها الداخلي على مجموعة من الصيغ والأدوات العجائبية (الفانطاستيكية) التي لا تستحضر أسرارها منذ القراءات الأولى[8] فالملتقى يصطدم منذ البداية بنص يشكل قطيعة مع النظم القائمة المتعارف عليها تلك القراءة التي تنشأ في غابة من التساؤلات التي تحتاج إجاباتها إلى كثير من الاجتهادات[9] المبنية أساسا على آلية نقدية متمرسة (احترافية) تمكن من إزاحة غلالة اللحظة الفانطاستيكية وفك تعقيداتها المتشابكة وتأثيت مكونات تيمتها كما كانت من قبل لحظة الإيداع وكما تبدو لنا في واقعها القارئ العادي الذي نهل من معين نصوص واقعية واضحة تفصح عن عوالمها ورؤاها وواقعها وإشكالاته حين ينتهي من قراءته الواعية وحين أقول الواعية فأعني بذلك قراءة مواكبة لحركية النص.
أشكال التأويل / الحفر.
من الواضح أن الإرتقاء إلى المعنى ناتج عن التفاعل الحاصل بين العلامات النصية وفعل الفهم عند الاقرئ ويتم هذا ضمن عملية فكرية شاملة نهائية يصطلح عليها بالتأويل "يعتمد على تقسيم النص وبحث معناه وتخريج قواعده وترجمتها إلى لغة ثانية وثالثة ولا يتأتى هذا إلا باعتماد تقنيات وآليات معقدة تكتسب عن طريق الممارسة النقدية العلمية والنظرية بالمعنى (الألتوسيري) وهذا طبعا ما يفتقده القارئ العادي غير القارئ المتخصص (الناقد) ذلك القارئ الذي كان إلى حدود السبعينات مع إبداعات جيل الرواد مع إبداعات جيل الرواد يخترق ويستوعب تيمات النصوص القصصية تتمثل فيها تقاطعات اليومي، نصوص واقعية لها هويتها ولها مرجعيتها الشفافة والزجاجية سواء أكانت هذه المرجعية مجتمعا أم أحد مستوياته والذي قد يكون المستوى السياسي أو العلاقات المادية أو الإيديولوجية أو غير ذلك.
ظهرت في الآونة الأخيرة وفي فترات متقطعة نصوص تقصصية لمحمد زفزاف بدءا من "كيف نحلم بموسكو" ثم "على شاطئ جينوه" و"الشاعر" وكلها نصوص راهنت على لحظات قائمة على صور واقعية في بناء إنسيابي، استرسالي يكرس نمطا إبداعيا متفردا وأسلوبا شبيها بخط سكة الحديد رغم رتابته فهو يخترق فضاءات متباينة ومستويات مختلفة لا نلمس جمالية تضاريسها إلا بالنظر في عمق التضاريس السابقة ... ولا أشك في أن قارئا عاديا متذوقا أو حتى قارئا فضوليا سيصطدم بصعوبة ما في نص من النصوص السابق ذكرها. إنها نصوص وإن جاء على عكس سابقاتها دفعة واحدة بفضاءات كونية جديدة في الكتابة "الزفزافية" (موسكو، منسك، جينوه، تونس..) إضافة إلى علاقات إنسانية رفيعة ومغايرة تطمح إلى ارتياد الكونية رغم كل هذه العوامل والمكونات الجديدة فالنص يكشف عن نفسه بأدواته وصوره ودلالاته، ولا أعتقد قطعا أن هناك قارئا عاديا سيعترضه غموض أو عائق ما عند تناوله مثلا نص (كيف نحلم بموسكو) في حين أنه إذا أحلنا على نفس القارئ نص "الأسفين" لعبد السلام الطويل[10] فإن مستوى التلقي لديه سيختل منذ البداية لذلك فهو يكلف نفسه عناء البحث عن "لذة" مفقودة بفقدان الحوار بينه وبين النص لأن هذا الأخير يعتمد على قراءة منهاجية، قراءة قوامها المقارنة والتأمل وإدراك الأبعاد أي القراءة المتخصصة
[1]- قصة (كلية الآداب) الملحق الثقافي للاتحاد الاشتراكي عدد 415 لسنة 1994.
[2]- ذخيرة العجائب الغريبة سيف بن ذي يزن، سعيد يقطين.
[3]- نفس المرجع.
[4]- المصطلحات الأدبية المعاصرة د. سعيد علوش.
[5]- مجلة آفاق العدد 4 السنة 1990.
[6]- لعبة الطفولة والحلم لمحمد برادة.
[7]- مجلة عالم الفكر العدد السنة 1993.
[8]- مجلة آفاق المغربية العدد 1 السنة 1990.
[9]- نفس المصدر.
[10]- قصة الإسفين صدرت بالملحق الثقافي لجريدة العلم مؤخرا في السبت 23/7/1994.

0 التعليقات: