أزمة القراءة .. أزمتنا القديمة .. أزمتنا الجديدة
إلى درجة أنها أضحت أزمة بنيوية في هويتنا منذ وعي الفكر العربي بجدوى النشاط القرائي
والإقرائي في تشكيل دعائم تقدم
المجتمعات العربية والذات العربية، في مواجهتها لصدمة
الحداثة التي فرضت أسئلتها المقلقة والملحة منذ القرن التاسع عشر.
إن ارتباط ذهنيتنا العربية بمنجز ماضيها التليد
المتألق، يجعلها دائما ذهنية تحاول إعادة تحقق هذا الألق والتوهج بالرغم من كوننا يستحيل
أن نسبح في النهر مرتين ... فالكثير من المثقفين والمهتمين بالمجالات السوسيوثقافية
من يعتقدون بل مافتئوا يتأسفون في الكثيرمن المواعيد، على العصرالذهبي للقراءة في زمن
الستينيات والسبعينيات ، فيما تؤكد العديد من المؤشرات والبحوث البيبلوغرافية على أن
أزمة القراءة في الوطن العربي، هي أزمة عنيدة ومستعصية لم تراوح مكانها منذ عقود، وأستحضر
هنا تصريحا لشيخ الإعلاميين والكتاب المغاربة عبدالكريم غلاب في حوارمع مراسل التلفزة
المغربية أواخر الستينيات وعلى الأرجح سنة 1969 حين كان رئيسا لاتحاد كتاب المغرب،
عبر فيه عن خيبته وأسفه على تراجع فعل القراءة في المجتمع المغربي فيما سعرالكتاب زمنئذ
كان لا يتجاوزالستة دراهم .
وانطلاقا من هذه الصورة التي أمست نمطية لواقع القراءة
في مغرب أواخرالستينيات يتبدى لنا كيف أننا كمثقفين غالبا ما نضخم هذا الوهم المستوطن
في ذهنيتنا، والذي يرسم لنا ماضينا الثقافي ماضيا جميلا ممهورا في نوستالجيا عن (فردوس
مفقود) كان يقرأ فيه الجميع !! وكأن كل فرد في مجتمعنا كان يحمل هما يوميا يرتبط باقتناء
كتاب وليس بتأمين حاجة الفرد للخبز الطبيعية ... ولست في الحقيقة أدري ما الذي يشدنا
أكثر إلى هذا الماضي القريب والبعيد على السواء بالرغم من إخفاقاته وخسارات رهانات
نخبه على خلق مجتمع عصري حداثي (moderne )،
وما الذي أيضا يدفع بنا جميعا إلى ترديد شعار(ليس في الإمكان أبدع مما كان) بالرغم
من كون حاضرنا يوفر كل القواعد الضرورية لخلق مجتمع قارئ، بالنظر إلى الإمكانيات المعنوية
والمادية المساعدة على تحقيق ذلك الهدف الأنبل والمثالي .
يقينا أن الكتاب باعتباره رافدا ومرسلا للمعرفة
وبلورة الوعي، كان ولا يزال يخوض معركة البقاء الشرسة في عمق تلاطم أمواج المد التكنولوجي
منذ مطلع القرن العشرين مع بروز الصورة الفوتوغرافية، ثم الصورة السينمائية المتحركة،
ثم في مرحلة لاحقة تحول الإختراع التكنولوجي من الملكية الجماعية إلى الملكية الفردية،
وبالتالي ظهرت البوادرالأولى لعصرمضايقة الكتاب الذي استفرد بمعين المعرفة على مدى
خمسة قرون الماضية، بمعنى آخر لقد استطاعت التقانة الجديدة أن تسرق من زمن الكتاب زمنا
لها لتحقيق متعة تلقي مغايرة لمتعة الكتاب ... تلقي مغايرغمرته الميديا بأصواتها وصورها
و(متونها ) المختلفة، ولعل أبرز ظاهرة ميدياتيك عرفها القرن العشرين وكان لها الأثرالبالغ
والعظيم على نسق التلقي هي ظاهرة الفن السابع (السينما)، التي تجاوزت سنوات دهشة الإكتشاف
الأولى، وتطورت موضوعاتيا إلى النبش في ذخائرالأسطورة والتاريخ التي ظلت راقدة بين
دفتي العديد من مصنفات التراث اليوناني والإغريقي والإسلامي والعربي أيضا ...
فالعديد من الأعمال السينمائية الخمسينية والستينية،تناولت
ضمن مواضيعها رموزالأسطورة (ميدوزا ـ هرقل ـ الإسكندرـ الجبابرة ..)، وفي مرحلة سابقة
وعلى مستوى العالم العربي نجد محاولات لا تختلف في أهدافها الفنية والجمالية عن ما
قاربته السينما الإيطالية الرومانية (قيس وليلى ـ عنترة ـ فجرالإسلام ـ الهجرة المحمدية
ـ )، وبالتالي فإن هذه الأعمال السينمائية الجنينية بقدر ما أسهمت في استنهاض بعض من
مقومات الهوية العربية الإسلامية والإنسانية، فإنها من جانب آخر قد جعلت من مراهنة
المتلقي العربي على سند الكتاب، مراهنة يحكمها التردد إن لم نقل إنها جعلت دور الكتاب
في حرج أمام سند الصورة السينمائية، باعتبارها تحقق مستويات تلقي ثرية في حركيتها وصوتها
وخطابها، وهكذا فقد استعاض القارئ إلى حد ما عن قراءة هذه الأساطير والوقائع التاريخية
على صفحات الكتب بمشاهدتها على سند الشاشة العريضة، في سياق فرجة متميزة وحديثة لها
فضاؤها وحميميتها وجوها الإحتفائي ... أما ما عمق هذا التهميش التدريجي لدورالكتاب
فهو من دون شك اختراع التلفاز الذي كان له الأثر البارز في تعميق أزمة القراءة، وذلك
باقتحامه للبيوت والفضاءات الإجتماعية (المقاهي ونوادي الشباب ..إلخ) واستحواذه على
لحظة القراءة، حيث باتت موضوعات برامجه وسهراته محاور للنقاش داخل الأفضية الإجتماعية
السالفة أو بين أفراد الأسرة ، ما جعل دورالكتاب يتراجع أكثرباعتباره محفزا على تنشيط
وإيقاظ فعل القراءة والإقراء بكل ما يرتبط بمستوياتها المعرفية والإدراكية والثقافية
والعلمية، لكن وبالرغم من ظهور هذه الوسائط التثقيفية الجديدة و تموقعها في حياة الإنسان
العربي كأسناد حديثة لبلورة وعي وفكر حداثيين من خلال دورها في مد جسورالمثاقفة، فإن
بنية صناعة الكتاب قد قاومت هذا المد التكنولوجي المزاحم والمنافس، واستمرالكتاب في
دوره الريادي والتقليدي في ارتياد آفاق المعرفة والدراسات، وخلق نخبة من الأنتلجينسيا
الوطنية القادرة على النهوض بالواقع المتخلف والمتردي في الوطن العربي، خصوصا بعد صدمة
الإستعمار وزلزال النكسة وأخيرا هزيمة حرب 67.
في المغرب وبالرغم من الجهود التي بذلتها الحركة
الوطنية منذ أواسط القرن العشرين، وظهور بوادر رغبة جامحة للسيطرة على جائحة الأمية،
إلا أنها كانت رغبة لا تستند إلى استراتيجية وتخطيط عقلاني، بل كانت رغبة معبأة بوجدان
عروبي قومي فائض كان لا يزال يجرجر ذيول الهيمنة الإستعمارية، ويستلذ بنشوة التحرر..
لقد كانت عبارة عن حملات موسمية تتغيا تلبية مطلب أساسي من مطالب القوى السياسية الوطنية،
ألا وهو محاربة الأمية، وهكذا وكنتيجة لفشل هذه الحملات ظل الكتاب حبيس فشله في الإنسجام
والإنخراط في الواقع الذي فرضته التقانة الجديدة ، وغياب تصور سياسي ثقافي لجعله محورالنهضة
الإجتماعية والتقدم الشامل ... و انحسردوره البراغماتي في التحصيل البيداغوجي والدراسي
الجامعي الذي يرتبط أساسا بالطموح الشخصي والترقي الإجتماعي
(achevement social )، وانتهاء دورالكتاب بانتهاء
التحصيل والجلوس على كرسي الوظيفة العمومية، وهذه قاعدة عامة تعرفها جميع النخب التقنية
ولا حاجة للوقوف بالتحليل عند ظاهرتها السوسيولوجية ... كما لا يجب أن يغيب عن أذهاننا
ونحن نجوب مع دورالكتاب و(فعل القراءة) في رحلته عبر الزمن العربي، إفرازات ذلك الصراع
الإديولوجي وحربه الساخنة وليس الباردة، تلك الحرب الشرسة التي أدت ثمنها الباهض الدول
العالمثالثية في إطارسباق القوى العظمى إلى الهيمنة الدولية، وتوسيع خارطة التحالفات،
ويقينا أن دور الكتاب لم يقل أهمية عن دورالإعلام والفن في ترسيخ أوتاد التبعية وتجذيرها
في الأوساط المجتمعية والسياسية، وبالتالي تعاظمت خطورة الكتاب كمحرض انقلابي على الحليف،
وباعتباره موجها للوعي إما شرقا باتجاه حلف وارسو، أوغربا باتجاه حلف النيتو،و طفحت
على السطح مع هذا المد والجزرالإديولوجيين، تلك المعادلة (أنا أقرأ إذن أنا مشبوه)،
وفعل القراءة في بعده التثقيفي التعبوي، بات رديفا لفعل المعارضة واستباقا لكل تحوير
أو محاولة التفكير في الإتجاه المعاكس،لذا لجأت السلطات في الوطن العربي إلى استعمال
كل الوسائل الممكنة لتحويط كل انفلات قد يتسبب فيه الكتاب المعارض.
أما على المستوى التربوي والبيداغوجي، فتعتبرالقراءة
مهارة إنسانية ترتكزعلى ميكانيزمات تمتزج في منظومتها العديد من الدعامات التربوية
والنفسية والفيزيولوجية والإجتماعية، لكن اقترن فعل القراءة والإقراء في ذاكرتنا الطفولية
بحصة للعقابين البدني والرمزي، مما كان سببا أساسيا في مقت كل شكل من أشكال العلاقة
بالقراءة، بمعنى كل علاقة كانت سببا في ذلك الورم النفسي الخطير الذي يصعب استئصاله
لكونه قد تجذر في اللاشعور الشخصي، وجعل من متعة القراءة ألما سيكولوجيا عميقا .
0 التعليقات:
إرسال تعليق