صارمن المؤكد أن شبكة الإنترنت في نسخته الثانية 0.2 web قد أثرت كثيرا وعميقا في
دلالات عديد من المفاهيم والقيم الإنسانية لعل أهمها جميعا قيمة التواصل حيث أدى الويب
إلى تذليل إكراهات العلاقات التخاطبية
الواقعية بين أفراد المجتمع فيما بينهم وبين
هؤلاء الأفراد والمؤسسات في المكان والزمان على حد سواء .
فلم يعد مثلا التراسل على نفس القدر من الإكراهات بين
البشرمثلما كان قبل عشرين سنة ، أي من قبل أن يبتلع الويب آليات التواصل التقليدية
بابتكاره لقنوات افتراضية تشعبية قادرة على تحقيق غاية وبهجة هذه الحاجة الإنسانية
الطبيعية في أرقى مستوياتها الدقيقة .
وقد كانت عديد من القطاعات المرتبطة بنيويا بمجالات النشر
والتواصل والمعرفة قد تأثرت بشكل مباشر بانتشار شبكة الويب على المستويين الأفقي
والعمودي أي على مستوى قاعدة البنية القطاعية من جهة ومن جهة أخرى على المستوى
التثقيفي والمعرفي ودمقرطة المعلومة .
فمن بين القطاعات الحيوية التي خلخلتها شبكة الويب
وأحدثت تغييرات في هيكلة نموذجها الإقتصادي قطاع الإعلام على اختلاف أسانيده
وقنوات تواصله المكتوبة والمرئية والمسموعة .
لقد أدى تنوع خدمات شبكة الويب إلى انتزاع استحواذ
المنابرالإعلامية للمعلومة والاستفراد بمعالجتها وبثها ونشرها انطلاقا من
استراتيجية خاصة إلى جعل المواطن صانعا لهذه المعلومة وناشرا ذاتيا لها انطلاقا من
تكوينه السوسيوثقافي والسيكولوجي والسياسي ومقاربته الخاصة للشأن العام بمنأى عن
كل توجيه مؤسساتي أو انضباط للأعراف والمواضعات الضمنية السائدة مما أدى إلى خلق مابات
يعرف في قاموس الميديا الإجتماعية ب "الصحافة المواطنة " حيث صار بإمكان
كل مواطن(ة) متعلم وملم ببعض المهارات لاستخدام الوسائط التكنولوجية من توظيفها
ليس بهدف توثيق حياته الحميمية الخاصة فحسب وإنما أيضا لنقل خبر أو حادث اجتماعي
أو موقف حقوقي أورأي سياسي ونشره على إحدى المنصات الشبكية إما رغبة في تحقيق ذاته
وإسماع صوته لتحسيس الطرف الآخر بوجوده أو بهدف أسمى من ذلك يروم تعميم محتوى المعلومة
على مجموعته التي تتشاطر معه نفس الانشغالات والهموم وهذا بكل يقين كان إيذانا
بتعاظم دور فاعل إعلامي جديد هو"الصحافة المواطنة journalisme
citoyen "
من بين منابر هذه الصحافة المواطنة المدونات (blogs ) إذ صار بإمكان كل مواطن(ة) متعلم
أن ينشئ مدونة على منصة استضافة وباسم نطاق وامتداد مجانيين قد يحمل إسمه الشخصي
الخاص أوعنوانا ذا دلالات رمزية أخرى .
وقد عرفت السنوات الأولى من بداية الألفية الثالثة
تصاعدا مذهلا في عدد المدونات سواء على منصات "بلوغر" أو "ووردبريس"
وغيرها من المنصات الغربية والعربية المجانية التي تقدم هذه الخدمة مقابل بث أو نقرات
الزوارعلى وصلات إشهارية تكون في الغالب غير مذرة للربح لصاحب المدونة بل للشركة
المصممة للمنصة الرقمية.
وعرفت هذه المرحلة كذلك قفزة أخرى لدور"الصحافة
المواطنة" مع ظهور دعامة المنتديات الموضوعاتية أوالمتنوعة ، ويمكن اعتبارها من
أخطر منصات التفاعلية وأوسع ساحة افتراضية للسجالات والتعليقات بين أعضائها في
مختلف الأقسام السياسية والنقدية والفلسفية والدينية ..إلخ إلا أن ما يميزخاصياتها
عن المدونات الشخصية أن فريق إدارة المنتدى تكون له كامل الصلاحية للتشطيب على أي
عضو(ة) وحرمانه من النشرمباشرة إذا ما أخل بقانون المنتدى وانحرف عن خطه التحريري
في مواضيع لها علاقة برأي خاص في السياسة والإثنية والمقدسات مثل الإلحاد أوالتطرف
أوالسرقات الأدبية أوالسب والقذف وغيرها ..إلخ
ومما لاجدال فيه أن هذه المنابر الإلكترونية قد أسهمت في
بلورة وعي حقوقي وسياسي عربي جديد قائم أساسا على خصوصياتها الرقمية المائزة كحرية
التعبير والتفاعلية الآنية ومتوالية الردود الجريئة دون قيد أوشرط أو تأشيرة من جهة
ما كيفما كانت سلطتها الرمزية أو المعنوية أو القانونية ..إلخ عدا سلطة إدارة
المنتدى .
إذا كانت المدونات والمنتديات وغرف الشات والبالتوك تقتضي
أن يلم العضو الناشربأبجديات وتقنيات الرقمية لنشرمشاركته في صيغة متناسقة ومنسجمة
إن على المستوى اللغوي والفكري أوعلى مستوى إستيتيك التنزيل الرقمي الفائق فإن إنشاء
مواقع التواصل الإجتماعي ( فيسبوك في 4 ينايرسنة 2004 ويوتيوب في 14 فبرايرسنة
2005 ) قد أحدثا معا انفجارا هائلا في قنوات التواصل عرفت معه "الصحافة
المواطنة" ثورة إعلامية واجتماعية أذكاها بالخصوص جشع شركات إنتاج تكنولوجيات
التواصل الحديثة للسيطرة على الأسواق العالمية مما أدى إلى انتشارالمعدات المتطورة
(حواسيب محمولة ـ تابليتات ـ هواتف ذكية ) بين مختلف الفئات الإجتماعية حتى
الفقيرة منها مما حفزعديدا من المواطنين سواء من باب الفضول تارة أوعن دراية ووعي تارة
أخرى على اقتحام تجربة إعلام بديل يستجيب لقناعاته الفكرية والسياسية وأيضا للتنفيس
عن مواقف لاوعيه السوسيوثقافية .
يجمع جل الأخصائيين في مجال التواصل والميديا الإجتماعية
أنه ماكان للثورات العربية أن تندلع لولا انتشار"الصحافة المواطنة" بفضل
توسيع خارطة الربط الشبكي وانتشارالأجهزة الإلكترونية الذكية واختراقها لمتاريس
الرقابة وقدرتها على تعبئة الرأي العام بخطاب إعلامي ـ إجتماعي بديل يستقي مادته الخبرية
الخام من فضاءات المجتمع المدني وأحاديث الشارع بدل أحاديث الصالونات الحزبية
والنقابية ولغة الخشب السياسية . ولعل أن فيسبوك بما تتيحه منصته من تطبيقات هائلة
مقارنة مع مواقع التواصل الاجتماعي الأخرى كإدراج روابط تشعبية وفيديوهات وملفات
صوتية وصوررقمية معبرة وبث حي كل هذا جعل من فيسبوك بما حمل من حقائق دامغة أومغالطات
على حد سواء أول منصة خبرية إلكترونية كونية تتلاطم في محيطها أمواج الرأي والرأي
الآخر بين مد وجزر بل لقد صارفي كثير من الأحيان مصدرا موثوقا به لعديد من المنابرالإعلامية
العملاقة المحلية والدولية إن لم يكن قد أصبح هو العدو الإعلامي الإفتراضي الأول
في بعض الأنظمة القمعية والشمولية .
وبالرغم من كون المغرب قد شكل استثناءا سياسيا في شمال
القارة بقدرة النظام على احتواء رياح الربيع العربي فإن هذا لن يبخس في شيء دور"الصحافة
المواطنة" في مواكبة ورصد غليان الشارع وتطلعات تنظيماته الشعبية من خلال
استثمارصفحات فيسبوك وتسجيلات يوتيوب إن على المستوى الفردي أو على مستوى
المجموعات والتنسيقيات ومختلف إطارات المجتمع المدني ..إلخ
والسؤال المطروح اليوم هو هل سيؤدي قانون الصحافة والنشرالجديد
الذي تم تنزيله منذ 15 أغسطس 2017 إلى طرد هذه "الصحافة المواطنة" من
جنة "حريتها " بعد أن تمادت في سنوات ربيعها في قضم فاكهة الطابوهات
ومشاكسة الخطوط الحمراء التي لم ولن تجرؤ الصحافة الوطنية على إثارة أسئلتها المحظورة
كالنبش في سؤال الثروة والدعارة والبيدوفيليا والمتاجرة بالدين والرشوة على اختلاف
صفقاتها والجنس مقابل النقط والتشرميل والسطو على العقارات والشطط في استعمال
السلطة والإختلاسات المالية والانحرافات الأخلاقية وغيرها من القضايا التي هزت
الرأي العام الداخلي والخارجي تحت شعارات ولوغوهات بارزة ودالة مثل (ماتقيش كذا
...) أو(زيرو كذا ...) أو(مامفاكينش) ..إلخ ؟
ومما لاشك فيه أن السلطات المغربية قد تعاملت بمرونة وبسعة
صدر إن لم يكن ب"لعبة الغميضة" مع جرأة "الصحافة المواطنة" فبالرغم
من الرياح الهوجاء التي عصف بها الربيع العربي لم تسجل خروقات حقوقية جسيمة ومتكررة
مقارنة مع دول أخرى كتونس أومصرأوالسعودية أوسوريا أوإيران حيث تكررت اعتقالات
ومحاكمات والاعتداءات على عشرات المدونين والنشطاء الافتراضيين على مواقع التواصل
الإجتماعي .
لكن إذا كانت السلطات المغربية قد تعاملت بدهاء وذكاء ولم
تكن تراقب غير نصف الكأس الفارغ في "الصحافة المواطنة" فإننا يجب أن نقربأن
هذه الدعامة الإعلامية الجديدة المفعمة بالحيوية الشبابية بأن في نصف كأسها
المملوء قد لعبت دورا أساسيا باعتبارها كانت وستظل "سلم ريختر" لقياس
درجة الزلازل الإجتماعية ومجهرا دقيقا لرصد اعتمالات الواقع مما يوحي ويساعد الدولة
على الإسراع إلى نهج السياسة "الاستباقية " بدل نهج سياسة حجب المواقع
أواعتقال المدونين والنشطاء الافتراضيين وهذا لم يحدث سوى في حالات معدودة على
رؤوس اليد الواحدة .
ملحوظة : أقصد ب" قانون المدونة" في
العنوان مدونة الصحافة والنشر التي تضمنت القانون رقم
88.13 المتعلق بالصحافة والنشر بمختلف دعاماته الورقية والإلكترونية ، إلى جانب القانون
رقم 89.13 المتعلق بالنظام الأساسي للصحافيين المهنيين، والقانون رقم 90.13 المتعلق
بالمجلس الوطني للصحافة.
0 التعليقات:
إرسال تعليق