عندما نتحدث عن الأجيال الأدبية كمفهوم إجرائي فإننا
نعني به تحديدا زمرة من الكتاب ( مبدعين ونقادا ومنظرين) وكل المهتمين بمختلف أجناس
الإنتاج الأدبي في حقبة
تاريخية معينة يمكن حصرها بين زمنين ( انبثاق ثم أفول ) .
والإنتاج الأدبي كظاهرة ابداعية متراكمة يخضع لتطورات
تسمه بخصوصيات سوسيوثقافية وسياسية تمثل صورة جلية لتطور المجتمعات البشرية ، وقد يتميز
هذا التطور بتيار أدبي ذو اتجاه معين كما قد تقابله تيارات أخرى متزامنة أو تتقاطع
معه وتتعارض في بعض التصورات والرؤى التنظيرية... وبنا على ما سبق فالظاهرة الأدبية
غالبا ما تستعصي على الملاحقة التاريخية لتتبع آثارها التي تتجذر في رحم ظاهرة أدبية
سابقة عليها ، كما تعتبر هذه بدورها وريثا لظاهرة أخرى ... ومن هنا يصبح مفهوم الأجيال
الأدبية المجسدة لهذه الظواهر مشوشا يأبى على التحقيب بسبب فضفاضيته.
هو ظاهرة مستمرة
وواضحة ، ففي حقول
Henri Peyre و(هنري بير)Albert
THIBAUDETإن الجيل حسب ألبيرتيبودي الأدب تتجمع تواريخ ميلاد الكتاب في فترات زمنية معينة ومتقاربة في أغلب
الأحوال وهذا التعريف يبقى إلى حد ما سوسيولوجيا مرتبطا بالزمن الكرونولوجي المثبت
في البطائق الشخصية للأدباء ، وبذلك فهو يقصي حركية الظاهرة الإبداعية التي لاتأتمر
بتواريخ ميلاد ولاتواريخ وفاة ، لذا يجدر بنا أن نحترس لدى مقاربة ظاهرة الأجيال الأدبية
لأننا عندما نتحدث عن جيل من الكتاب فالتاريخ المعبر عنه لايمكن أن يكون تاريخ الولادة
لأنه في الواقع لايولد المرء كاتبا بل يصبح كذلك مع مرور الزمن والدراسة والإبداع والبحث
ومن النادر أن يصل إلى غايته قي العشرين من العمر ... وانطلاقا من هذا المنظور فمفهوم
الجيل ليست له علاقة بالزمن الفيزيائي والبيولوجي أي بأعمار الكتاب كمحصلة لمتوالية
حسابية بله هو مرهون بنضج مشروع تجربة أدبية جماعية ، متميزة في محيطها الثقافي تطرح
بينها نفس الأسئلة الراهنة وتحدد نفس الرؤى المستقبلية ، ولعل محركها ومحفزها إلى هذا
الإتجاه عواملها السياسية والإجتماعية والفكرية وهذا في الغالب وفي رأيي هو التصور
المهيمن لذى جل المهتمين بظاهرة الأجيال الأدبية وإفرازاتها ...
هناك أمثلة لاحصر لها تمكننا من تدعيم هذا الطرح
، فجيل نكسة يونيوه 1967 مثلا طغت على مختلف إبداعاته الشعرية والنثرية والدرامية مرارة
الهزيمة إضافة إلى فشله كطليعة تقدمية في صراعاتها القطرية الداخلية من أجل دمقرطة
وتحديث المؤسسات السياسية في العالم العربي.
في أسبانيا ظهر جيل 98 وهي مجموعة من الكتاب عايشوا انهيار آخر معاقل الأمبراطورية الإسبانية في ما
وراء البحار إثر حرب اسبانيا في كوبا والفلبين وتحررهذان البلدان .
وفي روسيا القيصرية حاول جيل ( بوشكين ، جوجول ،
ترجنيف ، تولستوي ، ديستوفسكي ، وتشيخوف ) رصد حالة الشعب الروسي المتردية ومعركته
من أجل الخبز اليومي
...
أما في فرنسا فيكفي أن نذكر على سبيل المثال لا
الحصر جيل الرومانطيقيين الذي شهد في بداية القرن 19 ولادة بلزاك وهيكو وكانط الذين
صاغوا ثورة أدبية ضد تقاليد أدب أريستوقراطي.
إنها بالكاد أجيال شكلتها مؤثرات وخارجيات الذوات
المبدعة...
وتأسيسا على ما سبق نلاحظ أن مفهوم الأجيال الأدبية
قد تبلور انطلاقا من رؤية تحقيبية تتدثر بتحديدات نزعاتية وتيارات ( فلسفية، علمية ، إديولوجية ..إلخ )
ومن الواضح أن تباين الإتجاهات السالفة هو ما دفع
بالنقاد والمهتمين بظاهرة الأجيال الأدبية إلى اعتماد آلية " التحقيبية " كأداة إجرائية عند مقاربتها
مما أدى بالتالي إلى تنوع ظاهر في مستويات التحقيب ( كدوائر مغلقة على الشخصيات الأدبية
والفضاءات الجغرافية تتسم بفهم مدرسي ، سطحي للأدب ) ومن هذه المستويات نذكر :
التحقيب العشري
وهو التحقيب المتداول والسائد لدى جل المهتمين
. وينطلق أساسا من فكرة تأطير الأجيال الأدبية ضمن خانات عشرية كقولنا مثلا جيل الستينات
وجيل السبعينات وجيل الثمانينات ...الخ وهذا التحقيب فزيائي صارم إلا أنه اعتباطي وتعسفي
لكون خصوصية الإبداع الأدبي أنه يأبى التعليب ويثور ضد كل فعل قصدي يروم اقحامه ضمن
تحديدات زمنية حسب تواريخ انبثاق وتواريخ أفول كما أنه يقبر التجربة الفردية والجماعية
في حيز زمني ويحكم عليها بالتحنيط ( ولا يخفى أن هذه التسميات تضحدها فلسفات العلم
وفلسفات التاريخ وفلسفات الآداب ونظرياتها وإن كانت لاتضحدها السن البيولوجية . ) كما
أنه من بديهيات القول لايجوز في التاريخ عامة وفي التاريخ الأدبي خاصة تخطيط دوائر
زمنية تبدأ بعشرية وتنتهي بأخرى ، فالقوى الدافعة لتيارات الأدب لايمكن أن تحصر ، لأن
الأدب نهر دائم التدفق يحمل معه مؤثرات سابقة تطال الجذور العميقة والأصيلة كما أن
هناك ذاكرة للشعوب كما هي للأفراد قد تعود بهم إلى عهود سحيقة دون أن يعوا بذلك لأنهم
يحملونها تحت جلدهم مثلما يحملون خصائصهم البيولوجية المشتركة .
إن الوقوف تحت سقف زمني معين دون النظر إلى ما قبله
أوالتطلع إلى ما بعده كثيرا ما يكون بعيدا عن الموضوعية وبصورة خاصة إذا حددنا المساحة
بعشرية معدودة لأننا بذلك قد حددنا الرؤية ولو كنا نملك وجهات نظر عديدة أو قدرة على
التحديد والتثبيت
.
التحقيب النزعاتي
ونقصد به تلك العملية التي تهدف إلى حشر الظاهرة
الجيلية ضمن اتجاهات فكرية ومعرفية وسمت الحقل الأدبي برؤاها وتصوراتها ومواقفها من
الإنسان والوجود بصفةعامة ، كقولنا مثلا جيل الواقعية الإشتراكية التي تم ارساء دعائمها
ابتداءا من ماركس وانتهاءا بغوركي والتي ركزت على البعد الإنساني للأدب والفن والإيمان
بمستقبل الشعب والطبقة العاملة في العالم والإلتزام بقضاياها فبرزت صورة البطل الأدبي
الجديد أو النموذج المعبر عن رؤية اجتماعية وتجاوز نقل الواقع إلى الوعي به.
وهناك جيل الوجوديين الذي يعتبر االتزام الكاتب
ليس موقفا واعيا تفرضه طبيعة الصراع فقط بل هو الخيار الوحيد الذي يملكه الأديب للتعبير
عن ودوده وعن ذاته
...
وجيل الشكلانيين الذي دعا في كل خطاباته التنظيرية
إلى تغليب الشكل والقيم الجمالية على ما في العمل الأدبي من فكرة أو خيال أو شعور ،
ومن أهم رواده ( شلوفسكي ، ايخنباوم ، توماشوفسكي ، تينيانوف ، بروب ، جاكوبسون
...الخ ).
تحقيب الريادة
إنه التحقيب الذي يختزل جيلا كاملا في أديب واحد
، أديب متميز ، يعتبر أيقونة إبداعية مائزة بعطائها الغزير ومرجعا أساسيا للمقاربة
النقدية ولرصد مرحلة تاريخية عاشها وتشرب تجاربه وتجلياتها الإجتماعية والسياسية والثقافية
...وهو يشكل من جهة أخيرة أشعاعا لمجايليه ، مثل نجيب محفوظ بمصر وياسين رفاعية بسوريا
ومحمد عيد بالأردن وعلي الدوعاجي بتونس والواسيني الأعرج بالجزائر ومحمد زفزاف بالمغرب
والأمثلة كثيرة لاحصر لها هنا وعلى مستوى كل وطن أو جماعة أدبية . والملاحظ أن هذا
الصنف من التحقيب يظل أحادي الرؤية حيث أن تجليات ظاهرة أدبية أو ثقافية أو غيرهما
لاتقاس بعطاءات كاتب ( أيقونة ) و ( نموذج ) بل تتم عبر مختلف التجارب الإبداعية المحايثة
والمتزامنة معه .
التحقيب السياسي
هنا تتعدد الأجيال الأدبية بتعدد الثورات والحركات
السياسية التي دفع الكتاب غاليا من حياتهم وحريتهم ... فالحروب والثورات كثيرا ما تزعزع
الفكر الإنساني وتغير كذلك الكثير من المفاهيم والقيم والأفكار السائدة وتترك بصماتها
الواضحة على الأدب بشكل عام . وقد عايش الأدب بمختلف أشكاله هذه الأحداث ورصدها واهتم
بمشاكل الإنسان وقضاياه ونتوقف هنا عند قضية سياسية هامة شغلت الفكر العربي برمته من
الماء إلى الماء ، هي القضية الفلسطينية ، فجيل نكبة 1948 ركز في إبداعاته الشعرية
منها والنثرية على تيمات الخيانة والتعامل مع الأعداء كما صور محنة اللاجئين وما يعانونه
من شتات وفقر بالمخيمات وقد برزت في تلك الفترة صورة البطل الذي يسقط على تراب وطنه
المحتل ونشرت أشعار وقصص تتعامل مع هموم الشعب الفلسطيني فنذكر سميرة عزام ومجموعتيها
القصصية ( أشياء صغيرة ) و ( الظل الكبير) وعيسى الناعوري ومجموعته القصصية ( طريق
الشوك ) والقاص خلي السيف و ( عائد إلى الميدان ) وآخرون ...
أما في المغرب العربي فقد تعبأ جيل المرحلة الإستعمارية
إلى مقاومة الآلة الكولونيالية والظلم الإجتماعي وتحضرنا هنا كتابات عبد المجيد بن
جلون في ( وادي الدماء ) و ( مات قرير العين ) ( والأرض حبيبتي) ل عبد الكريم غلاب
و ( قدر العدس ) لأحمد شماعو وغيرها من الإنتاجاجات الأدبية التي عكست واقعها المتأزم ...
وبعد جردنا لهذه المحطات التحقيبية والتي صنعت أجيالها
الأدبية نطرح السؤال الأساسي ما إذا كان كل جيل يشكل قطيعة مرحلية مع سابقه أو لاحقه
من الأجيال .
هناك إذن التباس واضح ، فهل قاصا من رواد الستينات
مازال يعتبر الآن على مستوى التحقيب العشري كاتبا ستينيا ؟ وهل مازالت نصوصه القصصية
تجتر نفس الأسئلة ونفس التيمات التي دشنت بها عقد الستينات ؟ قد يكون الجواب على هذا
السؤال العريض غير ذي جدوى مادام الأديب أي أديب لايستحم في نهر حياته مرتين كما أن
النص أي نص لايمكن أن يعيد إنتاج مكوناته في مرحلتين مختلفتين.
فهناك من الكتاب المعمرين من قضى نحبه حيا وختم
على أنامله بالشمع الأحمر وتقاعد إلى الأبد ومنهم من لايزال يكابد ويعاند وهن الجسد
وتعب الذاكرة ، يبدع وينظر ويحاضر هنا وهناك بصوت مبحوح يصاعد من تخوم العقود الغابرة
ويجرجر خلفه طوائف من مدارس أدبية ومناهج نقدية ونظريات فلسفية واتجاهات فكرية . إن
هذا الأديب الشيخ يقف أمام مجايليه اليوم ليس باعتباره كتلة أجيال محطاتية منفصلة الواحدة
عن الأخرى بل جيلا واحدا ، متجددا ، مرتقيا ، يمشي على قدميه ويتلفع بلبوس (الحرباء) المبدعة لألوان منعطفاتها مثله اللحظة مثل الأدباء
الشباب يغترفون جميعا من نفس المعين الحاضرالراهن .
يقينا أن الفارق واضح على مستوى السن والذاكرة ،
بين ذاكرة مثقلة بترسبات التجارب وذاكرة ماتزال تؤثث فراغاتها البيضاء . غير أنه على
مستوى التجربة الإبداعية ومكوناتها الموضوعاتية والبنائية لاتختلف هذه عن تلك في تقاطعات
كثيرة ، مشتركة وبناءا عليه فالكل في المشهد الثقافي سواء .
عبده حقي
0 التعليقات:
إرسال تعليق