الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الثلاثاء، ديسمبر 24، 2019

ما علاقة الشعر بالجنون: عبده حقي


ما هي الكتابة ؟ ما الجدوى منها ؟ ما هي الكتابة الجيدة ؟ أسئلة وأخرى لا يمكن الإجابة عليها بطريقة حاسمة . من دون شك أننا نجيب على هذه الأسئلة عندما نكتب . نحن نجيب على هذا السؤال لأنه يتحتم علينا الإجابة عنه  ، حيث يجب أن تكون لدينا فكرة عما ننجزه من كتابات .  وإلا  فإن يدنا التي نكتب بها ستتيه في جميع الاتجاهات  .

ألا يمكن أن يكون فعل الكتابة جنونا في حد ذاته ؟ سؤال طرحته على نفسي بطريقة ساذجة تمامًا . في الواقع يتعلق الأمر هنا باعتبار الكتابة أو الشعر أو إنتاج أي شيء فني ، أمرا غير طبيعي . وإذا كان يبدو طبيعياً بالنسبة لنا ، فلماذا نشعر أحيانًا ببعض القلق أمام صفحة بيضاء ؟
هناك على الأقل حالة ذهنية واحدة يجب أن نجد أنفسنا فيها ، نقرة واحدة تكفي لتنقل الوعي ( هذا هو الموضوع الذي يدور حوله الشعر) ، الاندفاع الذي يبرر صيرورة الكتابة . بعد ذلك تنكتب الكلمة الأولى ، ثم تتبعها كلمات أخرى فيما بعد . ثم  ينوجد النص ، من دون أن نفهم مصدره وإلى ما أو من ينتمي . كما نتساءل أيضا في ما إذا كان هذا النص "صحيحا". نحن نتردد كثيرا في عرضه على القراء . كما لا نعرف في ما إذا كان ينبغي لنا أن نحتفظ به لأنفسنا أم ننفصل عنه ونتجاهله إلى الأبد .
ومثلما هو الأمر عندما نستيقظ من نوم عميق أو من حالة غضب لا يمكننا السيطرة عليها ، فإننا هنا إزاء نص ننتجه للتو من لاشيء ، النص الذي يحمل معه عديدا من الأسئلة حول ممارستنا ، حول أنفسنا وعالمنا الجواني . فما هي الحالة الأخرى التي يمكن أن تضعنا في مثل هذا الوضع إن لم تكن هي حالة الجنون؟ لأن الكتابة الشعرية ، الكتابة الحرة ، من دون قيود في الشكل أو في العمق ، هي الكتابة الأصعب .
الشعر ليس بسيطًا أبدًا ، إنه دائم التعقيد في كل مرة . لا نعرف أي كلمة ستنبثق في البيت الموالي لتكسر التناغم الهش الذي يسود حتى اللحظة الأخيرة في الكتابة . لا نعرف أيضا ما الذي سيكشف عنه البيت الموالي ، ولا أية الصور التي تنتظرنا في الأفق ؛ غير أن النص يظل رغم ذلك يوجهنا ويمضي بنا رويدا رويدا إلى الأمام.
ما هو الجنون؟
الجنون هو أن نفكر بأن الواقع ليس هو ما نراه . لكننا لسنا هنا بصدد موقف رافض لهذا الواقع بل إننا نتحدث عن قبول فكرة مفادها أن العالم الذي نتخيله هو أكثر صدقًا وواقعية من العالم الذي نعيش فيه . وبمجرد تكوين هذه الفكرة ، يمكن حينئذ مواجهتها بأحد تعريفات الشعر: فالشعر يتطلب وصف العالم المتواري خلف عالمنا الحقيقي .
نحن نتواجد إذن في حالتين متطابقتين للعقل . إذا كان الإلهام هو هذه القدرة على الانعطاف تلقائيا إلى حالة الجنون؟ هناك أيضًا حديث عن تغيير في حالة الوعي ، كما فعل الشعراء "الملعونون" الذين أسرفوا في شرب الخمر وتدخين مواد مختلفة . نتفق إذن على حقيقة أن الشعر موجود في مكان آخر، وليس هنا في هذا العالم الذي نراه . ومع ذلك الشعر الحديث يسعى إلى رؤية العالم في كل ما هو ملموس و حقيقي ؛ ولكن هل هي ذات الحقيقة التي تحدث في الشعر؟
كان الشعر و ما يزال دائمًا وسيلة للتعبير تحاول توجيه الخيال إلى حدث يتجاوز الواقع . أو إذا جاز القول نقل الواقع من فضاء إلى آخر حيث الشاعر ككل المجانين يغمس قلمه في العالم الآخر الذي يراه وحده من دون العامة ، ويحاول تلحيم بعض بقاياه لرد الجميل لقرائه.
يبدو لي أيضا أنه هناك جزء لا يتجزأ من الشعر ؛ اللعب بالصور ، التي تبني أدبيا الحقل الشعري والعوالم الشخصية ، والاستعارات ، والمقارنات وغيرها من الرموز، وكلها ليست سوى أذوات لإثبات ذلك "الهناك" الذي يحرك كل شاعر ، "الهناك" الذي نلمحه من وقت لآخر. لذلك ، سواء كنا بحاجة إلى الجنون أم لا ، فإن الشعر شيء آخر غير ما نريد أن نصدقه ؛ لأنه خارج التعبير المكتوب ، هناك شيء أكثر أهمية وقوة يلعب دوره .
عن موقع شعر متوحش lapoesiesauvage

0 التعليقات: