الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


السبت، سبتمبر 23، 2023

نص سردي "نافذتان .. ثديان على الجدار" عبده حقي


نافذتان تبرزان كالسراب في صحراء الإدراك. مظهرهما، وهو أقل ما يمكن قوله مثير للاهتمام، يستحضر الشكل الحسي لثديي مرأة، وهو غرابة تتحدى كل المنطق الجسدي. هذه النوافذ، كيانات بحد ذاتها في هذا المشهد الذهني الغريب، تدعونا إلى الغوص في عالم تتلاشى فيه الخرسانة لصالح الأحلام والتجريد
.

ثديا الجدار، رمزا للشهوانية والفضول، تقفان في غرفة عائمة، غرفة من الظل والضوء حيث يرقص الزمكان على إيقاع الرغبات والأوهام. ويتناقض شكلهما العضوي مع الصرامة المعمارية التي تحيط بهما، مما يخلق توتراً واضحاً بين ما هو طبيعي وما هو آجوري.

من إحدى النافذتين، يتدفق الحليب القمري في شلالات فضية، مما يملأ الجو بحلاوة بيضاء.

تولد النجوم في هذه المادة اللونية، وتنفجر في آلاف الانفجارات النجمية التي تبدو وكأنها تداعب جلد غير المرئي للزائر المراقب، مثل العديد من الذكريات السماوية.

أما النافذة الثانية فتتنفس نسيم أوراق برائحة الخريف. تنبعث رياح غامضة من هذه البوابة الغريبة، مما يتسبب في تموج ستائر الضباب والرقص على لحن سري غير مسموع.

تتحول أوراق الشجر إلى طيور أثناء طيرانها، وترسم زخارف الأرابيسك الشبيهة بالحلم في الهواء المضطرب. والكلمات، إن كانت لا تزال موجودة، تضيع في هذه السمفونية الصامتة.

هكذا تصبح ثديي النافذة لوحة فنية حية على صدر الجدار، وأعمال فنية في طفرة دائمة، تدعو إلى التأمل والتأمل. إنها استعارة لازدواجية الوجود، والتوتر المستمر بين المعلوم والمجهول، الملموس والمراوغ.

ومع ذلك، فإن المشاهد، المحاصر في هذا اللغز البصري، يدرك أن الواقع يفلت منه، وأن ملامح كيانه تتلاشى في هذا المشهد الدال. لم تعد النوافذ أشياء يمكن ملاحظتها، بل بوابات للروح، ومرايا للاوعي، وانعكاسات لللاعقلاني الذي يكمن في سبات كل كائن.

في هذا الفضاء السرمدي، يتشوه الإدراك، وتتشابك الحواس، ويفقد المشاهد نفسه في احتضان مثير مع سر الوجود. تهمس له صدور النوافذ، المستفزة والآسرة، حقائق مراوغة عن طبيعة الواقع والوهم.

وهكذا، في هذه اللوحة الغامضة، تقف النافذتان كأيقونات ملتبسة، حارستين لعالم يتجاوز الفهم. إنهما تذكرنا بأن شعر الوجود، في التجريد، قابل للتشكل، وأن الجمال غالبًا ما يوجد حيث لا نتوقعه، في فجوات الخيال.

وفي هذا العالم الأثيري حيث تشع من صدر النافذة هالة من الغرابة والغموض، تظهر عناصر أخرى من المجهول لتشارك في هذه الرقصة العبثية. ساعات ملتوية وتقطر مثل الشمع المنصهر، تتدلى من الجدران غير المرئية، وتدور أيديها في دائرة جهنمية، متحدية فكرة الزمن الخطي النمطي. تستحضر نغمات رنينهما رنينًا متنافرًا، وهو لحن يتحول إلى نشاز من الأرقام وعلامات التجزئة المفككة.

تطفو الأقنعة ذات التعبيرات المجمدة في المعلقة، وأعينها الفارغة مثبتة على المشاهد المراقب ، وأفواهها مغلقة، ومحاطة بجدار الصمت الأبدي. إنهما يستذكران أقنعة المسرح التراجيدي، لكن معناها يبقى سراً لا يفهمه إلا صدر النافذة.

ومن خلال هاتين البوابتين الجسديتين، يأخذ الضوء شكلاً ملموسًا راقصًا وأثيريًا، وكأنه كائن حي، كيان واعٍ يلعب بالظلال والانعكاسات، ويخلق لوحات سريعة الزوال ذات جمال مبهر.

جدران الغرفة، إذا أمكن تسميتها كذلك، تتنفس بلطف، كما لو كان المكان نفسه حيًا بنبض عضوي. تظهر الشقوق وتنغلق، مثل أفواه خرساء تلتهم وتلفظ الواقع نفسه. حدود الفضاء تنحني وتشوه المشهد، متحدية أي مفهوم للمنظور.

في هذا الفضاء الحالم، تهمس الأصوات البعيدة بأشعار بلغات منسية، وترتفع ألحان مجهولة بلا مصدر واضح. تطفو الأصوات وتختلط وتنسج شبكة صوتية حيث تندمج الكلمات والموسيقى في تجربة حسية لا توصف.

وتبقى صدور النوافذ هي النقطة المركزية في هذه الغرابة، مرشدة في هذه الرحلة إلى ما وراء حدود الواقع. إنها تجسد الشهوانية والفضول والازدواجية واللانهاية. إن وجودهما يثير دعوة لاستكشاف أعمق خبايا العقل البشري، وسبر هاوية الخيال، والانغماس في العبث لاستخراج الحكمة المخفية.

في هذا الفضاء السريالي، يذكرنا صدر النافذة بأن الجمال والمعنى يمكن العثور عليهما في أكثر الأماكن غير المتوقعة، وأن التجريد واللاعقلاني هما البابان لفهم أعمق لأنفسنا وللعالم الذي يحيط بنا. إنها قصيدة لاستكشاف سحر العبث.

0 التعليقات: