الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الجمعة، أكتوبر 06، 2023

قصة قصيرة "أمطار تبلل العزلة" عبده حقي

 


بدا وكأن شدة المطر المنهمر في الخارج كانت تعكس حالة الاضطراب داخل قلبها. وبينما كانت قطرات المطر تتساقط على زجاج النافذة، ارتفع صوت إيقاعها ، مرددًا صدى الأفكار المضطربة التي تتسارع في ذهنها.

وقفت هناك، وهي تحدق في الطوفان، وعقلها غارق في يم من الذكريات. لقد كانت واحدة من تلك اللحظات التي بدا فيها الزمن وكأنه يتلوى، واندمج الماضي والحاضر في نسيج واحد معقد. كان المطر بمثابة قناة، تفتح الفجوة بين أصداء الأمس البعيدة وواقع الحاضر الصارخ.

لم يكن بوسعها إلا أن تتذكر الماضي، عندما كانت الحياة بسيطة ومليئة بالوعود والمواعيد . انجرف عقلها إلى يوم مشمس على الشاطئ، حيث كان الضحك والفرح يملآن الهواء ذات يوم. تذكرت دفء يده في يدها، اللمسة اللطيفة التي وعدتها ذات يوم إلى الأبد.

لكن الآن، وهي تقف وحدها بجوار النافذة، كان ثقل الواقع يرهق كاهلها. لقد تلاشى الحب الذي تبادلاه، وانفقد وسط عواصف الحياة. كان الأمر كما لو أن المطر الغزير كان يغسل آخر آثار لقائهما، ولم تتبق سوى تلك المساحة الباردة الفارغة في قلبها.

اشتد المطر، وأصبح صوته أكثر إصرارًا، وكأنه كان يحثها على ترك الماضي واحتضان الحاضر. نأت بنظرها عن النافذة وجلست على المقعد الخشبي القريب. كانت ممسكة بهاتفها الخلوي، وهي تتصفح الرسائل القصيرة التي بدت تافهة في لجة عاصفة المشاعر المشتعلة بداخلها، وهي شاردة الذهن.

وبينما كانت تحدق في الشاشة، بدأت أفكارها تتبلور. أدركت أنها كانت متمسكة بشيء مضى منذ فترة طويلة، متمسكة بذكريات فقدت بريقها. أرخت أصابعها قبضتها على الهاتف، فانزلق من يدها، وسقط بلطف على المقعد المجاور لها.

أرسلت تنهيدة عميقة، أغمضت عينيها وتركت إيقاع المطر يغمر سمعها. في تلك اللحظة، قطعت على نفسها وعدًا صامتًا: أن تتخلى عن الماضي، وأن تجد العزاء في الحاضر، وأن تحتضن المستقبل الغامض بجماله . استمر المطر في الخارج ، لكنه بدا الآن وكأنه صار قوة تحمل أعباء الأمس وتترك مجالًا لغد أكثر إشراقًا ونضارة.

0 التعليقات: