أسير عبر غابة من النوافذ. كل زجاج ينبض بشيء غير مرئي، شيء يصدر صوت هسهسة ووميضا مثل الجمر تحت الجلد. ترقص النساء مثل الأشباح من حولي، وجوههن محفورة في الجدران، وأيديهن تمتد نحو السماء وكأن السماوات لم تتوقف عن حرقها. لا أطلب شيئًا، رغم أن عيونهن تصرخ بصوت أعلى من همسة أي رصاصة، وأعلى من قعقعة الوعود الجوفاء.
الحب هنا ملفوف في قطعة قماش، مدفون تحت آلاف المجارف من التراب، بين أضلاعه الدافئة. رائحته تشبه رائحة الحديد. يتنفس تحت الأرض، ويتحرك أحيانًا عندما تعوي الرياح في الليل. ومع ذلك، فقد توقف الموتى عن تسميته باسمه، حتى وهو يتسرب عبر الجذور، ويجري مع الأنهار، ويملأ أكوابنا بمرارة النظرات والتنهدات نصف المكتملة.
"لا تتحدثي إليهم عن الحب"، همست،
لكن الكلمات لها طعم الدخان، اللاذع، مثل رائحة جذع شجرة غير محترق. النساء يعرفن
ذلك ـ ينسجن رغبتهن في الستائر، ويعلقنها في زوايا منازلهن مثل المرايا، فقط
ليشاهدن ألسنة اللهب ترقص هناك في صمت. الأجساد التي حملنها ذات يوم ملفوفة بإحكام
أكثر من الكفن حول ذكرياتهن، أكثر إحكامًا من أي عناق يتنفس. وأنا أتبع صوت
خطواتهن، وأسمع صدى الأصابع على إطارات الأبواب، وسحب المسامير على الخشب البارد.
في صدورهم،
أصبحت القلوب ثقيلة كخيبة الأمل. كانت الخيانة هي الجرح الأول، عميقًا ومتعمدًا.
لم تأت الرصاصات إلا بعد ذلك، وحتى حينها، كانت تدخل بقوة أقل. لا يزال بإمكانك
الشعور بذلك، عندما تتغير الرياح وترتجف الجدران مثل صفحات كتاب عار من الدفتين .
يمكنك أن تشعر بالخيانة معلقة هناك، أكثر حدة من المعدن، ولكن أكثر هدوءً. دائمًا
أكثر هدوءً.
أمرّ بغرفة ليس
بها نوافذ، لكن الضوء يتسلل من تحت الباب، أحمر اللون ، مشتعلًا. لا أطرق الباب.
هناك نفس عميق ومتعب على الجانب الآخر، مثل شخص ينتظر العاصفة لتنتزع السقف. لا
صوت يخرج من الغرفة سوى ذلك التنفس. مد وجزر، يدخل، ثم يتراجع. الغرفة سر ملفوف في
ثوب تنهيدة. لا أريد أن أعرف ما تخفيه.
لقد تعلموا دفن
الحب عند أول إشارة لعودته. في منحنى منجل القمر، ينحتونه، ويدفعونه إلى عمق
التربة حيث لا يمكن لجذر أن يطالب به. بأيديهم التي لم تعد ترتجف، يضغطون على
الأرض، بحزم، حاسم. أراقبهم، وأعلم أنه لن يكون هناك حزن ، ولا دموع على ما لم يكن
من المفترض أن ينمو. تقبله التربة بصمت الموتى، ويمضي العالم.
ولكن عندما
استدرت عند الزاوية رأيته أحمر اللون، مثل فتحة جرح، ينسكب على الحائط. لا أحد
ينظر إليه. يمرون من أمامه، وشفاههن مضغوطة بإحكام، وعيونهن إلى الأمام، وكأن
التظاهر بعدم الرؤية يمكن أن يوقف انتشاره. لكنه يمتد إليهن، وخيوطه ملتفة، ممسكًا
بتنورتهن، وشعرهن. تضغط إحدى النساء بفمها في خط رفيع، وأنفاسها محصورة بين
أسنانها. تخطو خطوات أسرع، وتختفي في طيات الليل.
الهواء يفوح
برائحة الخشب الرطب، رائحة الانتظار. ولا يسعني إلا أن أسمع خشخشة أنفاس امرأة
ثقيلة، وكأن الليل سرقها، وحرفها إلى نسيج هذا المكان. تستحم بعضهن في مياه الزمن
كل صباح، عاريات تحت نظرة الشمس التي لا تجرؤ على النظر عن كثب. يتركنها تغمرهن،
ودفء رغبتهن ينزلق مع المد، وتبتلعه طيات الأرض. أخذت أخريات السكاكين لأنفسهن،
وقطعوا بعمق، وجردوا ما كان ناعمًا ذات يوم، وعلقن جراحهن كزينة للمارة للإعجاب
بها. يفعلن ذلك دون أن يقلن كلمة، وأيديهن ثابتة، وعيونهن حادة وهن يزين الشوارع
ببقايا ما كن عليه ذات يوم.
لقد أصبح هذا
طقسًا الآن، عادة ولدت من رماد شبابهن. أتساءل عما إذا كن يتذكرن طعم الصباح، واهتزاز
الأنفاس الناعم الذي لم يكن يشبه الألم. أو ما إذا كان العالم قد شعر دائمًا بهذه
الحدة والهشاشة. ألتفت مرة أخرى، والضوء يخفت. تصبح الأنفاس في الجدران ضحلًة، مثل
طائر يحتضر يرفرف مرة أخرى قبل أن يفرضه الصمت.
ولكن الحب. إنه
يضغط على حواف ذهني، ويظل عالقًا مثل فكرة لاحقة. إنه ينتظر في الشقوق، خلف
الأبواب التي لم يعد أحد يفتحها. هناك، يتحرك، خافتًا، غير راغب في التخلي عنه
تمامًا، رغم أنه يعرف أنه لم يعد موضع ترحيب. إنه يظل عالقًا في ابتسامة نصفية
لامرأة عابرة، شفتاها ملتوية إلى شيء يشبه ضحك ذات يوم ولكنه الآن يبدو وكأنه وعد
فارغ. إنها لا تنظر إلي، لكنني أشعر بنظرتها في الفراغ بين الأنفاس. تستقر هناك،
مثل الغبار على مرآة غير مستعملة، ناعمة وغير ملحوظة.
أواصل السير.
تتحرك الشوارع تحت قدمي، وتتلوى حولي، وتثبتني في مكاني بينما يدور العالم بعيدًا
عن متناول يدي. هناك لحظات أعتقد فيها أنني أستطيع التسلل بعيدًا، والاختفاء في
طيات التنهد، ولكن بعد ذلك تمسك بي الأرض، وتجذبني إلى الوراء بهمهمة ناعمة. لم
أنتهي هنا بعد.
خلف الأبواب
المغلقة، يعضضن شفاههن حتى تتذوقن الملح. ترتجف أنفاسهن في الصمت، وطعم الانتظار
يلتصق بألسنتهن مثل النبيذ القديم. لا يتحدثن عنه. ليس بعد الآن. حزنهن هو شيء
مقدس، شيء محفوظ في أعمق أجزاء أنفسهن، حيث لا يستطيع أحد الوصول إليه. لقد عرفت
الطريقة التي يدسونها بها تحت أضلاعهن، يضغطن عليها حتى لا تتحرك، ولا تتنفس.
ومع ذلك، في
هدوء الليل، عندما ينام العالم ويخفي القمر وجهه، أسمعهن. همهمة أصواتهن الناعمة،
وارتعاش يد لطيفة تلامس الجدران أثناء مرورهن. إنهن يدفن حزنهم عميقًا، لكنه يجد
دائمًا طريقة للتنفس، نفسًا هادئًا، وشهقة مسروقة.
الغرف هنا مليئة
بالأسرار، رغم أن لا أحد ينطق بها بصوت عالٍ. إنها معلقة في الهواء مثل رائحة
الخشب المحروق، كثيفة وثقيلة. يمكنك أن تشعر بها في الصمت، في الطريقة التي يضغط
بها الهواء على بشرتك، والطريقة التي يبدو بها الضوء وكأنه ينحني بعيدًا عن
متناولك. أريد أن أسأل، لكن الكلمات تتعثر في حلقي، وتتحول إلى رماد قبل أن تتخذ
شكلها.
لا تسألهن عن
الحب، فلن تجده إلا مختبئاً في الأماكن التي يرفضن النظر إليها. ستجده في ارتعاش
أيديهن، في الطريقة التي تضغط بها أصابعهن على شفاههن وكأنها تريد إسكات شيء لم
يكن من المفترض أن يُقال. إنه ينتظر هناك، بين الأنفاس، منتظراً لحظة لن تأتي
أبداً.
لقد تعلمت نساء
الحرب منذ زمن طويل كيف يدفنن قلوبهن قبل أن تزهر الرغبة الأولى. لقد تعلمن فن
الصمت، وكيف يبقين العالم تحت سيطرتهن بنظرة أو إيماءة أو نفس هادئ. حبهن شيء
قديم، شيء مدفون عميقًا تحت الأرض حيث لا تلمسه الشمس أبدًا. إنه يكمن هناك،
منتظرًا، رغم أن لا أحد يجرؤ على إيقاظه.
وبينما أسير في
هذا المكان، عبر هذه الشوارع التي تتحرك كالرمال تحت قدمي، أشعر بثقل صمتها يضغط
عليّ. يلتصق بجلدي، ويستقر في عظامي، حتى أقع أنا أيضًا في قبضة الهدوء. أنفاس
الرعشة الضائعة.
0 التعليقات:
إرسال تعليق