الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الجمعة، سبتمبر 06، 2024

"عطر الغياب" نص مفتوح : عبده حقي


طاولة بلا أرجل، تطفو فوق الساعات التي ترفض أن أحصيها. تضحك التفاحة التي عليها مثل ساعة نسيت كيف تدق. جلدها ليس أحمر. إنه كل الألوان التي ترفض بدورها أن أسميها. تحت لحمها، أسمع ارتعاش أصوات بعيدة تحدثت ذات يوم في أحلامي لكنها لم توجد خارجها. أعتقد أنها ربما تكون من الضوء، أو شيء آخر لا يلقي أي ضوء. تجلس هناك، مستديرة وساكنة، مثل الكون عندما كان ينتظر أن يولد، وأنا الشاهد الوحيد على قصتها.

انهارت تنورتك ـ التي أصبحت الآن خريطة ـ فوق السجادة، لترسم المسافات بين الأنفاس. ليس لها حدود، بل طرق بلا وجهات، مسارات تتلاشى في ذاتها مثل المرايا التي تبتلع الانعكاسات. تهمس الخيوط القزحية للريح، ورغم عدم وجود ريح في الداخل، ترتجف السجادة وكأنها تحت عبء سري. يتلاشى لون تنورتك أيضًا، وتتغير الأنماط مثل الجمل التي تعيد ترتيب نفسها عندما لا أرتبها. إنها أحجية من قطع تعيد ترتيبها عندما ترمش. المعنى موجود دائمًا في مكان آخر، ينتظر دائمًا خلف زاوية أخرى، وأنا أتبعه بشكل أعمى، أطارد شظايا غير متناسبة أبدًا.

ثم هناك أنت حبيبتي . لكنك لست في سريري. أنت بجانبه، فوقه، تحته، تدورين حوله كسؤال بلا إجابة. أنت الغياب والحضور لألف باب لم أكن أعلم بوجودها قط. تلتف الملاءات حول أطرافك العذبة مثل الكروم، تجذبك أقرب وتدفعك بعيدًا في نفس الوقت. أمد يدي إليك، لكن يدي ليست لي. إنها إيماءات فارغة ووعود لم أقطعها أبدًا. ومع ذلك، أحتضنك بكل طريقة لا أستطيع فهمها. تملأ أنفاسك الغرفة، وفجأة يصبح الهواء كثيفًا جدًا بحيث لا أستطيع التنفس، وكأن المساحة بيننا مبسوطة من شيء أكثر من مجرد صمت.

لم يعد السرير سريرًا، بل حقلًا ممتدًا بلا نهاية إلى أماكن لم نلمسها أبدًا. في مكان ما بين الملاءات والأرض، فقدت المسار حيث ننتهي ومن أين نبدأ. تصبحين أنت السماء، وأنا العاصفة داخلها. أو ربما يكون العكس. أشعر بدفء بشرتك، لكنه دفء يحترق مثل الجليد من فرط البرد، ويتحرك تحت أصابعي مثل الرمل الذي ينزلق عبر أصابع الزمن. كل جزء منك هو صدى لا يمكنني التمسك به، انعكاس لنجم اختفى قبل فترة طويلة من أن ألاحظه.

لقد التف الحاضر حولنا كهدية ترفض أن نفتحها. أمزق حوافها محاولاً أن أفهم ما تحتويه، لكن كل طبقة تكشف عن طبقة أخرى، لحظة أخرى ترفض أن تستقر. يضحك الوقت في دوائر، يدور بنا مثل قمم عبر عالم هذه الغرفة. الليل نفسه يتكشف كحيوان وقع في فخ، فرائه يلمع بألوان غير مرئية، كل نفس همسة بأسرار لم أسمعها قط، ومع ذلك عرفتها دائمًا. يطن الهواء، يهتز بنبض لا أستطيع تتبعه، إيقاع يبدو أنه يتردد صداه من تحت ألواح الأرضية، لكن لا توجد ألواح أرضية هنا، فقط الفضاء اللامتناهي حيث يجب أن تكون أفكارنا.

أشعر بالبرد، لكن البرد ليس باردًا، بل هو مجرد دفء آخر متنكر في البرد. يضغط الليل على طيات بشرتي، وأرتديها مثل جلد ثانٍ، أكثر إحكامًا من جلدي. لا يوجد قمر خارج النافذة لأن النافذة لم تعد مفتوحة على الخارج. تفتح على مكان حيث تتكون الرياح من ذكريات ، حيث كانت النجوم ترفض البقاء في السماء، وتختار بدلاً من ذلك الغرق في بحر الأرض مثل البذور التي تنتظر موسمًا لن يأتي أبدًا.

أحاول أن أغمض عيني، ولكن لا سبيل إلى إغلاقهما هنا. تومض الصور خلف جفوني مثل شريط سينمائي عالق في حلقة، وأتساءل عما إذا كانت هذه هي الطريقة الوحيدة التي نوجد بها - ومضات عابرة من الضوء عالقة بين إطارات الوقت، ولا تستقر أبدًا في مكانها. يتحرك وجهك في الظلال، وتتحول عيناك إلى نوافذ، تصبح مرايا، تصبح كل شيء ولا شيء في آن واحد. وأنا تائه في انعكاسات الانعكاسات، أتساءل عما إذا كنت قد رأيتك حقًا أم أنك ببساطة الشكل الذي ابتدعته أفكاري.

طعم ما على لساني، حلو وحاد، مثل لدغة شيء محظور. إنه طعم الحاضر، لحظة ممتدة رقيقة مثل جلد الطبل، تنتظر الإيقاع الذي لن يأتي أبدًا. وفي هذا الانتظار، نعلق، مثل النجوم المحاصرة في شبكة السماء، بعيدًا جدًا عن الأرض بحيث لا يمكن أن تسقط، وقريبًا جدًا من الحافة بحيث لا يمكن أن تطير.

يمتد الليل، ولا يكسر صمته إلا همهمة الكون وهو يدور في مكانه حول مركزه. ومع ذلك، حتى في هذا السكون، هناك حركة. أشعر بها في الطريقة التي تلمس بها أنفاسك بشرتي، في الطريقة التي تلتف بها الأغطية حولنا في عقد، تربطنا بلحظة ترفض التخلي عنها. أمد يدي إليك مرة أخرى، وهذه المرة يدي هي يد، لكنها تمر عبرك كما لو كنت من الهواء، أو شيء أخف من الهواء . أريد أن أتحدث، لكن الكلمات تتعطل في حلقي، وتتحول إلى غبار قبل أن تتمكن من التشكل.

لا تزال التفاحة قابعة على الطاولة، رغم أنها تبدو الآن وكأنها تراقبنا، نظراتها مثقلة بثقل الأشياء التي لم تُقال. أتساءل إن كانت تعرف الأسرار التي أخفيناها في طيات هذه الليلة، إن كانت قد سمعت الهمسات التي مرت بيننا في المساحات التي لا تلامس أجسادنا بعضها البعض. يبدو أنها تنبض بنور ليس نورًا، وهج يأتي من مكان عميق في الداخل، من قلب ليس من هذا العالم. أتساءل إن كانت حية، إن كانت تتنفس نفس الهواء الذي نتنفسه، أو إن كانت موجودة في مكان لا نحتاج فيه إلى التنفس.

ثم فجأة، تمامًا كما بدأ، يتحول الليل. يصبح الهواء رقيقًا مرة أخرى، ويمكنني التنفس دون أن أثقل وزن النجوم على صدري. السرير مجرد سرير، والسجادة مجرد سجادة، وأنت أنت فقط. لكن التفاحة يظل، وجودها يذكرني بالغرابة التي تكمن تحت سطح هذا العالم. إنها ليست حمراء، ولم تكن كذلك أبدًا. إنها لون غير موجود، طعم لا يمكن تسميته، لحظة ترفض أن تُنسى.

أمد يدي إليها، وبينما تلمس أصابعي سطحها، ينحرف العالم. لم أعد هنا، بل في مكان آخر، مكان حيث تتداخل الخطوط الفاصلة بين الواقع والخيال في ضباب من الألوان والأصوات التي تتحدى الوصف. أنا هنا بلا وزن، أدور في عالم مألوف وغريب في نفس الوقت، مريح ومرعب في نفس الوقت. وفي وسط كل هذا، هناك أنت، وهناك أنا، وهناك التفاحة.

والتفاحة لا تكون حمراء أبدًا.

0 التعليقات: