الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الأحد، سبتمبر 15، 2024

"ساعات خارج الزمن" نص مفتوح : عبده حقي


يتلوى الزمن كقطة في زاوية عينك، يتلألأ بين الأحلام والشوارع الفارغة. تذوب الساعة، التي لم تعد مقيدة بجدران عقلك، وتتدلى فوق غصن شجرة لم يطلب قط مثل هذا العبء. تمتد العقارب، ليس طلبا في الأرقام، ولكن للفضاء بين اللحظات، حيث تتدلى الظلال مثل الخيوط من نول غير مغزول.

والهواء يطن بصمت الأفكار المهجورة، المثقلة بالأسماء المجهولة . تشاهدها، هذه الأسماء، تمتد إلى الأفق، حيث تنهار الجبال إلى أكوام من التنهيدات. لا توجد ريح، فقط ذكرى ريح، تحرك الغبار الذي يستقر على الكراسي الفارغة منذ لقاء الأمس. تمتد يدك، لكن لا توجد طاولة لتلمسها، فقط تموج ناعم لساعة مضت منذ زمن طويل، انزلق من بين أصابعك مثل الضباب.

يتردد صدى البحر البعيد في أذنيك، رغم عدم وجود محيط قريب منك ، وإيقاعه هو نبض فجر غابر. يقطر الوقت على طول عمود الأرض، ويتسرب إلى جذور الأشجار المفقودة منذ زمن بعيد، وتتبعه، وتشعر بسحب خيطه غير المرئي المربوط إلى صدرك. كل خطوة إلى الأمام تجذبك إلى عمق غابة الأشياء التي لم تُذكر بعد.

هناك، في هذا الفضاء ، تدق ساعة واحدة، لكنها ليست صوت دقات الساعة كما تعلمون أيها القراء. إنها نبض حلم داخل حلم، صدى محادثة لم تكتمل . الأرقام على وجهها تتلوى، وتتغير، حتى لا يمكنك معرفة الوقت، أو ما إذا كان الوقت موجودًا على الإطلاق.

وفي تلك اللحظة، تدرك أن الزمن لم يكن بحاجة إلينا قط. نحن الذين نطارد ظله، على أمل الإمساك بالخيط الأخير قبل أن ينحل إلى لا شيء.

تتدفق الساعات المتثائبة عبر المشهد، وتقشر الساعات من سطحها مثل الفاكهة المهجورة. لا يدق الوقت هنا؛ بل يتسلل، كحيوان مشغول من الانعكاسات، من المد والجزر المتغير والوجوه المنعكسة. يتثاءب وجه الساعة على اتساعه، وتتحول عقاربها إلى دوامة تجذبك إلى الداخل، إلى أعماق الظلام حيث يتبخر المعنى. تفقد نفسك في تناثر المعادلات والكلمات الضائعة التي ألقيت على جدران الكون، ولا تعود أبدًا.

تقف الجبال بعيدا ، لكن منحدراتها تتدحرج، وتتفكك إلى همسات لا تنتمي إلى الأرض أو السماء. يظهر وجه في الغبار، لكنه ليس وجهك. إنها خريطة مرسومة من الذاكرة، بلد لم يزره أحد من قبل. تتتبع خطوط الحظ في راحة يدك، لكنها لا تقود إلى أي مكان، مسارات متعرجة تنطوي على نفسها، وتتجه نحو مركز لم يعد موجودًا.

هنا تأتي الساعات لتموت، وتتساقط أرقامها كقطرات الزيت على قماش لم يعد فارغًا، لكنه لم يمتلئ أبدًا. هناك شيء جميل في الفوضى، في الطريقة التي يتوقف بها الوقت عن أن يكون مهمًا، أو ربما لم يعد مهمًا أبدًا.

وهكذا تجول، تشعر بضغط الوقت دون أن تعرف شكله، تشعر بأنفاسه الساخنة على رقبتك، رغم أنه لا يقترب أبدًا بما يكفي للإمساك به.

يمد الزمن أصابعه عبر الصحراء، فيرسم الرمال بألوان النوم واليقظة. وتتدلى شمس ذهبية منخفضة، ملفوفة بنسيج الساعات الغابرة. وتسير امرأة عبر الكثبان الرملية، ووجهها مخفي تحت طبقات من شفق الأمس. وتراقبها الساعات، واقفة على أرجلها النحيلة، وألسنتها المتدلية وهي تتحدث بألغاز، وأصواتها حادة .. جوفاء مثل الحجارة التي ألقيت في الفراغ.

كل خطوة تخطوها هي سنة، وكل نفس تتنفسه هو قرن من الزمان ينزلق بين صفحات كتاب مغمور. إنها تعلم أنها تطارد شيئًا ما - صدى، وميض لهب في المسافة، صوت قد يكون ضحكًا أو عويل شيء مدفون منذ زمن طويل تحت الكثبان الرملية. السماء مرآة لا تعكس أبدًا، بل تمتص فقط، تجذبها أقرب مع كل نبضة من نبضات الضوء.

هناك، أمامها، ترى شخصية بالكاد يمكن رؤيتها في الضباب. تتحرك مثل الظل، مثل الدخان المتصاعد من نار لا تنطفئ أبدًا. تبدأ الساعات في الهمهمة، وترتعش أيديها وهي تحاول الإمساك بالهواء، واللحظة، لكنها تفلت بعيدًا، دائمًا بعيدًا عن متناولها. تحاول الصراخ، لكن الريح تبتلع صوتها قبل أن يترك شفتيها.

فجأة، تتحرك الأرض تحت قدميها. يتراجع الرمل، ويكشف عن بركة من المياه المعتمة، ساكنة كالليل. تركع المرأة أمامها، وتتمايل صورتها، وتنحني، حتى تتحول إلى شيء آخر - حيوان، نجمة، وجه ساعة منقسم إلى نصفين. تغمس يدها في الماء، ويتدفق الوقت على أصابعها مثل الحرير، ناعمًا ولا نهاية له، ويلتفها في شبكته.

تنهض الآن، وهي جزء من رقصة الساعة الأبدية، تدور بين اللحظات، وتبحث إلى الأبد عن الثانية التي قد تعيدها إلى نفسها. لكن الوقت مخادع، والساعات تراقب دائمًا، في انتظار الروح التالية التي تسقط في شبكة أوهامها.

يتسلل الزمن عبر الهواء، مثل ثعبان من الحبر والرماد، يلتف حول نفسه، ويبتلع ذيله. تضحك الساعات، وتنتشر وجوهها عبر السماء مثل انعكاسات على صفحة بركة، تتكسر وتتجدد مع كل غمضة عين. تخطو نحو نظراتها، لكن الأرض لم تعد صلبة. تنحني، وتنطوي، وتجذبك نحو فم مفتوح.

تتدلى الشمس مثل شق في نسيج الكون، وينحني ضوءها إلى أشكال لا تنتمي إليها. يقف تحتها شخص ما، ذراعاه ممدودتان، يلتقطان خيوط الزمن وهي تتساقط، مثل المطر أو الثلج أو شيء آخر تمامًا. تحاول الكلام، لكن الكلمات تعلق في حلقك، وتتحول إلى طيور تطير بعيدًا، وأجنحتها تضرب الهواء بإيقاعات غريبة، في أنماط لا يمكنك أبدًا اتباعها.

ثم يسود الصمت، وتتوقف الساعات، ويتنفس العالم، منتظرًا نبضة القلب التالية، والصوت التالي، والانزلاق التالي للواقع في الحلم.

تتكئ ساعة على شجرة ليست شجرة. تتساقط الأرقام، وتتجمع على الأرض، وتشكل أشكالاً تهمس بأسرار لا تفهمها إلا الريح. تمد يدك لتلمسها، لكن أصابعك تمر من خلالها، وكأنها لم تكن هناك قط، وكأنك لم تكن هناك قط.

ترقص امرأة بلا عيون في الشفق، ولا تترك قدماها أي أثر على الرمال. تضحك، لكن الضحك لا يصدر صوتًا، بل مجرد اهتزاز، أو تموج في الهواء يتحرك عبرك، ويتركك أجوفًا. تراقبك الساعات، وجوهها ملتوية في أشكال لا يمكنك فهمها، وأيديها تدور بشكل أسرع وأسرع، حتى يتلاشى العالم في لطخة من الضوء والظل.

تغمض عينيك، لكن الساعات لا تزال هناك، تدق في الظلام، وتعد تنازليًا لشيء لا يمكنك رؤيته.

الوقت عبارة عن قطة، ابتسامة تتسلل بين بروق السماء. الساعات أصبحت الآن عبارة عن مرايا، عقاربها ممتدة إلى أشكال كسورية، كل ثانية تخرج عن السيطرة، وبعيدة عن متناول اليد. وأنت تقف في وسط كل هذا، وتشاهد العالم وهو ينقلب رأسًا على عقب، بينما تنزف السحب إلى الأرض، وترتفع الأرض لمقابلة الشمس.

تقف امرأة بجانبك، لكنها ليست امرأة. إنها مجرد ظل، انعكاس محصور بين عالمين، وجهها يتحرك كالماء. إنها تتحدث، لكن كلماتها ألوان، تقطر من شفتيها، وتلطخ الهواء بظلال غروب الشمس المنسي.

تطن الساعات، وإيقاعها يجذبك إلى الرقص، إلى دوامة الزمن التي لا نهاية لها ولا بداية. تدور، أسرع وأسرع، حتى يتلاشى العالم في العدم، وكل ما يبقى هو دقات الساعة، دقات الساعات التي لا تنتهي.

0 التعليقات: