في خطاب حكيم واقعي ومقنع بمناسبة الذكرى التاسعة والأربعين للمسيرة الخضراء المغربية، قدم الملك محمد السادس رؤية متعددة المستويات تتحدى طموحات الجزائر الأطلسية مع تأكيد سيادة المغرب على صحرائه الغالية. إن هذه الذكرى، وهي مناسبة للتأمل في الأهمية التاريخية للمسيرة الخضراء تلك التعبئة السلمية في عام 1975 الفريدة من نوعها والتي أدت إلى استعادة الصحراء من الاستعمار الإسباني - أصبحت وقفة سنوية لتأكيد موقف المغرب من سيادته على أراضيه. ومع ذلك، فإن خطاب الملك محمد السادس لهذا العام يتجاوز الموضوعات المتكررة للسيادة والوحدة الوطنية، ويتعمق في السياسة الإقليمية المعقدة التي تنطوي أساسا على دور الجزائر وصنيعتها جبهة البوليساريو، والإمكانات غير المحققة للتعاون الإقليمي في شمال أفريقيا.
وفي إشارة رامزة
بل ومباشرة إلى الجزائر، الأم الطبيعية والإيديولوجية لجبهة البوليساريو، أشار الملك
محمد السادس إلى أن "هناك من يستغل قضية الصحراء للوصول إلى المحيط الأطلسي".
إن رغبة الجزائر في الوصول إلى المحيط الأطلسي، على الرغم من القيود الجغرافية، ترمز
إلى أطماعها الواضحة وتطلعاتها الواسعة للتأثير على السياسة الإقليمية ووضع نفسها كزعيمة
بين دول الساحل والمغرب. ومع ذلك، اقترح المغرب مبادرة دولية من شأنها أن تسمح لدول
الساحل الإفريقية - بما في ذلك مالي والنيجر - بالوصول إلى طرق التجارة الأطلسية. وأكد
الملك أن هذه المبادرة تنهض على الشراكة والازدهار المشترك، مما يشير إلى انفتاح المغرب
على الحلول التعاونية التي يمكن أن تفيد المنطقة بأكملها. ومع ذلك، يأتي هذا العرض
مع توقع ضمني: الاعتراف بسيادة المغرب على الصحراء واحترامها كأساس لمثل هذه الشراكات
الإقليمية.
ومن خلال تقديم هذا
الاقتراح، وضع الملك محمد السادس المغرب في موقف استراتيجي باعتباره منتصرا للتعاون
الإقليمي، في حين وصف معاكسة الجزائر الطويلة الأمد للسيادة المغربية على الصحراء بأنها
معزولة وضارة بالوحدة الإقليمية المغاربية . ومن خلال الترويج لرؤية تعاونية، يسعى
المغرب إلى تقديم موقفه بشأن الصحراء باعتباره موقفاً يتماشى مع التقدم الإقليمي المشترك،
مما قد يوفر إطاراً قادراً على سد الفجوات السياسية إذا كانت الجزائر والجهات الفاعلة
الإقليمية الأخرى على استعداد للمشاركة.
لقد أكد الملك محمد
السادس أن المغرب "أثبت واقعًا ملموسًا وحقيقة لا رجعة فيها" في المنطقة.
وأكد أن هذه الشرعية تستند إلى القانون الدولي والروابط التاريخية والالتزام الحقيقي
للشعب الصحراوي بالهوية المغربية. وأشار الملك إلى أن الأمم المتحدة اعتبرت الاستفتاء،
بمجرد اقتراحه كحل للنزاع الإقليمي، غير قابل للتطبيق وتم التخلي عنه فعليًا. وعلى
الرغم من ذلك، تواصل الجزائر وصنيعتها جبهة البوليساريو المطالبة به باعتباره قضية
أساسية، وهو ما يفسره الملك على أنه رفض لقبول الواقع الحالي.
كما تطرق الملك إلى
الأوضاع في مخيمات تندوف بالجزائر، حيث يعيش آلاف الصحراويين تحت سيطرة الجزائر وجبهة
البوليساريو. وأكد موقف المغرب من ضرورة إجراء إحصاء إنساني لسكان المخيم، مشددا على
مخاوفه من تعرض هؤلاء الأفراد لظروف "الإذلال والإهانة والحرمان من أبسط الحقوق".
وبالنسبة للمغرب، فإن هذه القضية تؤكد على التناقضات الأخلاقية والإنسانية في منهجية
جبهة البوليساريو، وتشكك في شرعيتها الأخلاقية في الدعوة إلى استقلال الصحراء المغربية.
كما سلط الملك محمد
السادس الضوء على الاعتراف الدولي المتزايد بمخطط الحكم الذاتي للصحراء، والذي قدمه
كحل استشرافي يحترم السيادة المغربية والتطلعات الاجتماعية والسياسية للمواطنين الصحراويين.
وأشار إلى أن مبادرة الحكم الذاتي قد حظيت بدعم دولي واسع النطاق، مما يرمز إلى إجماع
متزايد على شرعية موقف المغرب. وفي رأي جلالته، يمثل هذا الدعم الدولي تحولاً بعيدًا
عن الروايات الاستعمارية العتيقة والمواقف الإيديولوجية البائدة التي فقدت أهميتها
في الجغرافيا السياسية المعاصرة.
إن أحد الجوانب الأساسية
في منهج المغرب تجاه نزاع الصحراء هو التأكيد على الوحدة الداخلية والتنمية. وقد أكد
الملك على أهمية رابطة الولاء بين سكان الصحراء والدولة المغربية، وهي علاقة ترتكز
على روابط تاريخية تعود إلى قرون مضت. وأشاد الملك محمد السادس بصمود وولاء الشعب الصحراوي،
ووصف ارتباطه بالمغرب بأنه شهادة على قوة هوية الأمة ووحدتها.
وبالإضافة إلى الإيماءات
الرمزية، استثمر المغرب بشكل كبير في التنمية الاقتصادية والاجتماعية لأقاليمه الجنوبية.
وأشار الملك محمد السادس إلى "النهضة التنموية والأمن والاستقرار" في المنطقة
كدليل على التزام المغرب تجاه مواطنيه في الصحراء. وتعمل مشاريع البنية الأساسية والاستثمار
في التعليم والرعاية الصحية والخدمات العامة على تحويل المنطقة والحد من الفقر وتعزيز
مستوى المعيشة لسكانها. ومن خلال تعزيز النمو الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي، يهدف
المغرب إلى خلق بيئة لا تؤكد سيادته فحسب، بل وتوضح أيضًا الفوائد العملية للتكامل
مع الدولة المغربية.
واختتم الملك محمد
السادس خطابه بدعوة الأمم المتحدة إلى "تحمل مسؤولياتها" من خلال توضيح الفرق
بين منهج المغرب، المتجذر في الواقع والمبادرات الاستشرافية، و"العالم المتجمد"
الذي تمثله الجزائر وجبهة البوليساريو. وكانت رسالة الملك واضحة: فبينما تبنى المغرب
مسار التنمية البناءة والشراكة الدولية، لا يزال خصومه متمسكين بأيديولوجيات بالية
لم تعد تخدم تطلعات شعوب المنطقة.
وفي نهاية المطاف،
فإن رؤية المغرب تتجاوز مجرد تمسكه بحقوقه التاريخية المشروعة في الصحراء. فهي تقدم
إطاراً أوسع للتكامل الإقليمي الذي قد يشمل الجزائر أيضاً، إذا اختارت إعادة صياغة
موقفها. وعلى هذا فإن خطاب الملك لم يكن مجرد تأكيد على السلامة الإقليمية فحسب، بل
كان بمثابة دعوة إلى كل بلدان شمال أفريقيا للنظر في مسار نحو النمو والاستقرار المشترك.
0 التعليقات:
إرسال تعليق