اشتهر خورخي لويس بورخيس، سيد السرديات المتاهية والمفارقات الميتافيزيقية، بابتكاره لحضارة تيلون الخيالية الموصوفة بتفاصيل رائعة في قصصه القصيرة تيلون، أوكبار، أوربيس تيرتيوس . وقد أذهل هذا العالم المتخيل، بعاداته وفلسفاته وغرائبه اللغوية، القراء والعلماء على حد سواء منذ نشره لأول مرة. والآن، يسعى مشروع أدبي طموح بقيادة المؤلف المكسيكي خورخي فولبي إلى تجاوز الخيال وإعطاء شكل ملموس لمفهوم بورخيس الخيالي. إن هذه المبادرة، التي تقودها دار النشر الشهيرة "صفحات الرغوة" تجمع، 20 مؤلفًا تحت سن الأربعين، وتدعوهم إلى إعادة اختراع وتوسيع عالم تيلون المتخيل بشكل جماعي.
في جوهره، يعد هذا
المسعى استكشافًا للحدود بين الخيال والواقع، وإشادة بالإرث الدائم لبورخيس، وتأملًا
في قوة القصص التشاركية في عالم حديث ومجزأ.
في الحكاية الأصلية
لبورخيس، كانت «تلون» مجرد خيال خيالي ـ تجربة ميتافيزيقية من تأليف جمعية سرية عازمة
على إعادة تشكيل الواقع من خلال اختراع واقع جديد. وتتميز هذه الحضارة الخيالية بهوسها
بالدهشة على حساب الحقيقة، وتفضيلها لعلم النفس على الفلسفة، ولغتها الغامضة الخالية
من الأسماء. وبالنسبة لبورخيس، لم تكن «تلون» مجرد مكان خيالي بل كانت بمثابة تعليق
على طبيعة الفكر الإنساني والبنى الثقافية.
من خلال إعادة تصور
«تلون» ومن خلال أصوات الكتاب المعاصرين، يردد مشروع فولبي صدى روح قصة بورخيس. لا
يكتب المساهمون عن «تلون» فحسب؛ بل إنهم يسكنونها، ويوسعون جغرافيتها، ويصقلون عاداتها،
ويعيدون التفكير في أطرها الفكرية واللغوية. إن كل قصة، مثل شظية من مرآة محطمة، تعكس
جانبًا من إمكانات «تلون» اللانهائية، وتعيد بناء هويتها بشكل جماعي لجيل جديد.
من بين السمات الأكثر
إقناعاً في «تلون» سعي سكانها إلى الدهشة بدلاً من الحقيقة المطلقة. وعلى النقيض من
عالمنا، حيث يسود المنطق والعقل في كثير من الأحيان، فإن مواطني «تلون» يسترشدون بالفضول
الفطري والرغبة في الانبهار الدائم. ويخلق هذا التوجه الفلسفي مجتمعاً لا يقيده أي
تصور جامد، حيث السيولة والخيال هما أسمى الفضائل.
في مشروع فولبي، يتم
استكشاف هذا المفهوم بعمق ملحوظ حيث يتعمق الكتاب المشاركون في كيفية تشكيل مثل هذه
النظرة العالمية للحكم والتعليم والعلاقات الشخصية. على سبيل المثال، كيف سيبدو النظام
القانوني في مجتمع حيث العدالة أقل اعتمادًا على الأدلة وأكثر اعتمادًا على القدرة
على إلهام الرهبة؟ أو كيف قد تتكشف التحقيقات العلمية في عالم حيث غالبًا ما تطغى الجمالية
المطلقة لـ "الكيفية" على "السبب"؟
إن هذه الأعمال السردية
التخيلية لا تجيب على هذه الأسئلة فحسب؛ بل إنها تثير أسئلة جديدة، تعكس أسلوب بورخيس
في الإغراء الفكري. إن فعل القراءة نفسه يصبح تمريناً على الإعجاب بإمكانيات الإبداع
البشري.
ولعل السمة الأكثر
لفتاً للانتباه في الواقع المتخيل الذي تصوره "تيلون" هي المشهد اللغوي الذي
يصوره. ففي بعض مناطقه، تتألف اللغات من الأفعال فقط، وتتجنب الأسماء تماماً. ويعكس
هذا البناء النحوي الجذري رؤية عالمية حيث تحظى العمليات والأفعال بالأولوية على الكيانات
الثابتة. وبالنسبة لبورخيس، كان هذا وسيلة لتحدي الافتراضات الأساسية للقارئ حول الكيفية
التي تشكل بها اللغة الفكر.
في إعادة تصور مدينة
«تلون»، يستكشف المؤلفون الآثار المترتبة على مثل هذه الخصائص اللغوية. ومن خلال القصص
التي تتضمن عناصر من هذا التواصل القائم على الفعل، يبحثون في كيفية تأثير اللغة على
الهوية والذاكرة والثقافة. كيف يمكن لمجتمع بدون أسماء أن يدرك الفردية؟ ماذا يحدث
لمفاهيم مثل الملكية أو التاريخ في عالم حيث يصبح الاستمرار مستحيلاً لغوياً؟
وتدفع هذه السرديات
حدود الخيال المضاربي، فتخلق ساحة لعب لغوية تتخذ فيها الأفكار أشكالاً ديناميكية ومتطورة
باستمرار. وهي تذكرنا بأن اللغة ليست مجرد أداة للتواصل، بل إنها مرآة لجوهر الوجود.
وبعيدًا عن الجانب
المجرد، يخوض مشروع فولبي أيضًا في الجوانب الأكثر واقعية لحضارة «تلون». ويتخيل مؤلفوه
بدقة جغرافيتها ومأكولاتها وطقوسها اليومية، فيرسّخون بذلك الجانب الروحي في الجانب
الحسي. ومن مذاق الأطعمة الشهية التي تشتهر بها «تلون» إلى إيقاعات المهرجانات، تضفي
هذه التفاصيل الحياة على العالم الخيالي، فتجعله يبدو حقيقيًا بشكل واضح.
في إحدى القصص، يروي
مسافر رحلته عبر المناظر الطبيعية المتغيرة في «تلون»، حيث تتحول الجبال إلى سهول بمرور
الوقت، وتتدفق الأنهار إلى الوراء تحت أقمار معينة. وفي قصة أخرى، يستكشف أحد عشاق
الطهي التقاليد التذوقية في «تلون»، حيث لا تتعلق الوجبات بالقوت بقدر ما تتعلق باستحضار
مشاعر أو ذكريات معينة. تعمل هذه القصص على إثراء نسيج «تلون»، وتحويله إلى مكان يمكن
للقراء رؤيته وتذوقه والسكن فيه تقريبًا.
إن ما يجعل هذا المشروع
مقنعاً بشكل خاص هو طبيعته التعاونية. ففي حين كانت رؤية بورخيس الأصلية ل»تلون» نتاج
عقل فردي، فإن نسخة فولبي عبارة عن فسيفساء من وجهات نظر متنوعة. حيث يجلب كل مؤلف
صوته وأسلوبه وخلفيته الثقافية الفريدة إلى الطاولة، مما ينتج عنه تصوير متعدد الأوجه
ل»تلون» متعدد الأوجه مثل العالم الحقيقي.
إن هذا المنهج الجماعي
يعكس حقيقة أوسع نطاقاً حول رواية القصص: وهي أنها جماعية بطبيعتها. فالقصص ليست مجرد
قطع أثرية ثابتة بل هي كيانات حية تتطور مع إعادة سردها وإعادة تفسيرها وإعادة تشكيلها
من قِبَل أصوات مختلفة. ومن خلال دعوة مؤلفين متعددين للمساهمة في موسوعة «تلون»، يكرم
مشروع فولبي هذا التقليد، ويحول البناء الخيالي لبورخيس إلى عالم ديناميكي ومتسع باستمرار.
في نهاية المطاف، فإن
إعادة تصور «تلون» هو احتفال بالإمكانات اللامحدودة للخيال البشري. إنه يدعو القراء
والكتاب على حد سواء إلى تجاوز حدود المعروف واستكشاف الاحتمالات اللانهائية للمجهول.
في عالم تهيمن عليه بشكل متزايد البراجماتية والفائدة، فإنه يذكرنا بأهمية العجب والفضول
والمتعة المطلقة للاختراع.
وكما قال بورخيس ذات
يوم: "إن الواقع ليس دائماً محتملاً أو محتملاً". ومن خلال جرأته على إحياء
«تلون»، احتضن فولبي وزملاؤه هذا الاحتمال غير المحتمل، فأثبتوا أن القصص الأكثر غرابة
غالباً ما تكمن وراء حدود ما نعتبره حقيقياً.
0 التعليقات:
إرسال تعليق