لقد فجر التصعيد الأخير لحرب إسرائيل على غزة شرارة الأسئلة الحارقة حول تصريف المقاطعة الثقافية على أرض الواقع، حيث ناقش عديد من الكتاب والفنانين والمثقفين في الدوائر العربية والأوروبية ما إذا كان ينبغي استهداف الفن والثقافة والمشهد الإبداعي ككل رداً على الصراع السياسي بين الفلسطينيين والإسرائيليين. هل يمكن أو بالأحرى يجب تنزيه الأعمال الثقافية والفنية عن العواقب السياسية الوخيمة المفروضة من أي دولة طاغية، وخاصة في صراع أبدي مثل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني؟
هناك عدة آراء غالباً ما تكون متجذرة في وجهات نظر مختلفة يشكلها
التاريخ والسياسة والأخلاق والضمير الإنساني.
في العالم العربي، حيث تحمل القضية الفلسطينية أبعادا تاريخية
وقومية عميقة، ينظر العديد من الكتاب والفنانين إلى آلية مقاطعة الثقافة الإسرائيلية
باعتبارها موقفا من مواقف التضامن مع الشعب الفلسطيني ، إذ لا يُنظَر إلى المشاركة
الثقافية مع إسرائيل باعتبارها شكلاً من أشكال التعاون فحسب، بل باعتبارها تأييداً
جليا لممارسات وسياسات الدولة الإسرائيلية. ومن هذا المنظور، فإن الثقافة هنا ليست
محايدة؛ بل إنها متشابكة مع السياسة والتاريخ والهوية. ويزعم هؤلاء أن استهلاك المنتوجات
الثقافية الإسرائيلية أو الترويج لها قد يخاطر بإضفاء الشرعية على الخطابات التي قد
تحجب أو تبرر معاناة الفلسطينيين.
لطالما دافع الكاتب الراحل اللبناني إلياس خوري عن مقاطعة إسرائيل
ثقافياً، معتبراً أن سياسات إسرائيل تجاه الفلسطينيين لابد وأن يكون لها تداعيات في
كافة المجالات، بما في ذلك المجال الثقافي. ويعتقد خوري وآخرون أن المقاطعة الثقافية
تشكل عامل ضغط على المثقفين والفنانين الإسرائيليين لمواجهة سياسات حكومتهم والتفكير
في عواقبها الأخلاقية والإنسانية . ويزعم بعضهم أيضا أن المقاطعة هي وسيلة ناجعة لمحاسبة
المجتمع الإسرائيلي بطريقة سلمية، وحثه على التغيير من خلال الإقصاء بدلاً من الصراع
والمواجهة المسلحة.
ولكن هناك أصوات معارضة حتى بين المثقفين العرب. ويزعم البعض
منهم أن المقاطعة الشاملة قد تغلق باب الحوار وتنفر الفنانين الإسرائيليين الذين ينتقدون
سياسات حكومتهم ويدعمون الحقوق الفلسطينية. على سبيل المثال، عبرت الروائية المصرية
أهداف سويف عن آراء دقيقة للغاية، ودعت إلى المشاركة الانتقائية التي تميز بين الأفراد
على أساس موقفهم من القضية الفلسطينية. وفي هذا المنهج، يظل التبادل الثقافي ممكناً
ولكنه رهين بأولئك الذين يدعمون القضية الفلسطينية بنشاط ملموس.
في أوروبا، يبدو الجدل حول المقاطعة الثقافية أكثر تعقيدًا،
وغالبًا ما يكون ملونًا بالإرث التاريخي والأخلاقي للقارة العجوز، بما في ذلك العودة
لمحرقة الهولوكوست. بالنسبة للعديد من المثقفين الأوروبيين، تثير المقاطعة الثقافية
أسئلة متذبذبة حول العقاب الجماعي والرقابة والحق في التعبير. لطالما قيمت أوروبا التبادل
المنفتح والحوار باعتبارهما مسارات ناجعة لطريق السلم والسلام، واعتبرت النتاجات الثقافية
تعتبر عالمًا محايدا يتجاوز المعضلات السياسية. ومن هذا المنظور، تتم مقاربة الفن والأدب
كمساحات حيث يمكن للأصوات المعارضة والتأملات النقدية حول سياسات الدولة أن تنمو وتزدهر.
لقد عارض كتاب بريطانيون بارزون مثل إيان ماك إيوان وجيه كيه
رولينج علنا المقاطعة الثقافية لإسرائيل، معتبرين أنها تقيد الحرية الفنية وتخنق الحوار
المفتوح. وقد زعم ماك إيوان على وجه الخصوص أن الثقافة يجب أن تظل مجالاً للإنسانية
المشتركة، حيث يمكن لوجهات النظر المتعارضة أن تتعايش وتؤثر على بعضها البعض. وهو يعتقد
أن تهميش الكتاب والموسيقيين وصناع الأفلام الإسرائيليين من شأنه أن يغلق قنوات قيمة
للمشاركة النقدية، وخاصة مع أولئك في المجتمع الإسرائيلي الذين يعارضون الاحتلال الغاشم
ويدافعون عن السلام.
وعلى النقيض من ذلك، يزعم بعض المثقفين الأوروبيين أن المقاطعة
قد تكون بمثابة شكل مشروع من أشكال الاحتجاج. على سبيل المثال، دعا الكاتب الفرنسي
من أصل جزائري بوعلام صنصال إلى زيادة الضغوطات على المؤسسات الإسرائيلية، معتقداً
أن ذلك قد يشجع على الإصلاح والنقد الذاتي داخل دولة إسرائيل. ورغم أن كل الكتاب الأوروبيين
لا يتفقون مع تلك المقاطعة الثقافية، فإن عدداً متزايداً منهم يدعمون المبادرات التي
تلفت الانتباه إلى معاناة الفلسطينيين وتحث نظرائهم الإسرائيليين على اتخاذ مواقف أكثر
قوة ضد تصرفات حكومتهم.
هناك في صلب الحجة الرائجة ضد المقاطعة الثقافية خطر التبسيط
المفرط. فالحروب والصراعات معقدة ومتشابكة للغاية، وتتضمن وجهات نظر لا يمكن تجزيئها
بسهولة بين عقلانية وضعيفة.
بالإضافة إلى ذلك، يزعم المنتقدون أن المقاطعات يمكن أن تلحق
الضرر عن غير قصد بالأصوات التي تهدف إلى حمايتها، لأنها تثبط عزيمة الفنانين الإسرائيليين
الذين قد يكونون متحالفين مع القضية الفلسطينية من المشاركة في الحوارات العالمية.
ومن المرجح أن يتم تهميش كتاب إسرائيليين مثل ديفيد جروسمان،
المعروف بانتقاده الصريح للسياسات الإسرائيلية، في حالة المقاطعة الثقافية على الرغم
من دفاعهم عن حقوق الفلسطينيين. ويحذر معارضو المقاطعة من أن هذا من شأنه أن يؤدي إلى
تآكل مساحة المعارضة داخل إسرائيل نفسها، وإضعاف موقف القوى التقدمية التي تدفع بصدق
نحو السلام والعدالة.
ويزعم أنصار المقاطعة الثقافية أن فصل الثقافة والفن عن طواحين
السياسة يشكل نوعا من الترف السلوكي لا يستطيع الفلسطينيون أن يتحملوه. وهم يرون أن
الدعوة إلى المقاطعة تشكل امتداداً ضرورياً للمساءلة وإعلاناً بأن كل جانب من جوانب
الحياة، بما في ذلك الثقافة، لابد وأن يعكس قيم المرء ومسؤولياته.
وبالنسبة للكتاب العرب على وجه الخصوص، فإن الحرب على غزة ليست
حدثاً معزولاً بل هي جزء من نضال أوسع نطاقاً من أجل تحرير فلسطين، وهو نضال يتطلب
التضامن بكل أشكاله ـ بما في ذلك التضامن الثقافي.
ومن خلال الامتناع عن تداول أو الترويج للمنتوجات الثقافية والفنية
الإسرائيلية، يأمل الكتاب العرب وبعض الأوروبيين في بعث رسائل واضحة مفادها أنهم يرفضون
الانخراط في ما يرونه "تطبيعًا" للاحتلال والقمع الممنهج. وهم يزعمون أنه
مثلما فرضت البلدان المتقدمة والمنظمات الحقوقية والسياسية مقاطعة ثقافية على جنوب
أفريقيا في ظل نظام الفصل العنصري (الأبارتايد) ، فإن الثقافة الإسرائيلية يجب أن تواجه
نفس المحاسبة والمساءلة أيضًا.
إن النقاش الدائر حول المقاطعة الثقافية لإسرائيل في ضوء الحرب
على غزة يسلط الضوء على المعضلات الأخلاقية التي يواجهها عالمنا المترابط والمتشابك
. فبالنسبة للعديد من الكتاب العرب، يشكل دعم المقاطعة الثقافية شكلاً من أشكال التضامن
مع محنة الفلسطينين، ويجسد موقفاً ضد التواطؤ المفترض في القمع الجماعي الممنهج. وبالنسبة
لآخرين، وخاصة في أوروبا، فإن المقاطعة قد تخاطر بتنفير الحلفاء وإغلاق قنوات الحوار
التي قد تؤدي إلى التفاهم المتبادل والسلام في نهاية المطاف.
ختاما يبقى اختيار المقاطعة هو قرار شخصي للغاية أكثر مما
هو تدبير جماعي، يتأثر بقيم المرء وسياساته وشعوره بالمسؤولية. وهو يتحدى الكتاب والفنانين
للنظر في ثِقَل ممارساتهم، سواء كانت منخرطة أو غير منخرطة. ومع توالي الأيام وتطور
مجازر الحرب في غزة، من المرجح أن تظل هذه المسألة مثيرة للجدل، مما يدفع المجتمع الأدبي
والفني إلى مواجهة التقاطعات المعقدة بين الحرب والفن والأخلاق.
0 التعليقات:
إرسال تعليق