اكتسب مفهوم "الدولة العميقة" زخمًا في الخطابات السياسية المختلفة في جميع أنحاء العالم، وغالبًا ما يتم تأطيره كشبكة غير مرئية وغير منتخبة تمارس السلطة خلف الكواليس، وتؤثر على قرارات الحكومة وتشكل المسارات الوطنية بشكل مستقل عن المساءلة العامة. وفي حين أن مثل هذه الأفكار قد تبدو تآمرية، فإن المصطلح له سياقات محددة حيث أثبت أنه مفيد لشرح الديناميكيات السياسية الغامضة.
غالبًا ما يتم الاستشهاد
بالجزائر، بتاريخها السياسي الفريد، كدراسة حالة لفحص وجود الدولة العميقة وتداعياتها،
وكشف الحقائق والمبالغات حول هذا المفهوم. من خلال استكشاف الهياكل السياسية في الجزائر
وتحولات السلطة والأحداث التاريخية، تسعى هذه المقالة إلى تشريح ما إذا كانت الدولة
العميقة حقيقة واقعة في السياق الجزائري أم مجرد أسطورة تستخدم لشرح قضايا الحكم المعقدة.
غالبًا ما يرتبط مصطلح
"الدولة العميقة" في الجزائر بهذا النفوذ الشامل للأجهزة العسكرية والأمنية
في الحكومة المدنية. يزعم بعض المحللين أن الدولة العميقة تشير إلى شبكة مترابطة من
النخب داخل الجيش وأجهزة الاستخبارات وقطاعات اقتصادية مختارة تعمل خارج نطاق التدقيق
العام وتمارس سيطرة كبيرة على النتائج السياسية. على النقيض من ذلك، يزعم المدافعون
عن الدور العسكري للجزائر أن مثل هذا النفوذ ضروري للاستقرار، وخاصة في دولة لها تاريخ
من التمرد والإرهاب وعدم الاستقرار الإقليمي. بغض النظر عن التفسير، لا يمكن إنكار
أن الجيش الجزائري مارس تاريخيًا قوة سياسية كبيرة، مما دفع الكثيرين إلى اعتباره فاعلًا
أساسيًا داخل "الدولة العميقة".
وتعمل الدولة العميقة
في الجزائر، كما تُصوَّر غالبًا، من خلال آليات مختلفة تسمح لها بممارسة النفوذ خلف
الكواليس. أولاً، تلعب الأجهزة العسكرية والاستخباراتية دورًا حاسمًا في اختيار القادة
الوطنيين. على سبيل المثال، كان يُعتقد على نطاق واسع أن الرئيس السابق عبد العزيز
بوتفليقة، الذي تولى منصبه من عام 1999 إلى عام 2019، كان يحظى بدعم النخب العسكرية
أثناء صعوده إلى السلطة. وعلاوة على ذلك، مع تدهور صحة بوتفليقة في سنواته الأخيرة،
تكهن الجمهور بشكل متزايد بأن جهات فاعلة أخرى داخل المجتمع العسكري والاستخباراتي
كانت تتخذ القرارات نيابة عنه، مما عزز فكرة الدولة العميقة التي تعمل داخل الحكومة.
وبعيدا عن اختيار القادة،
يزعم أن الدولة العميقة في الجزائر تمارس السيطرة على قرارات السياسة. ويشير المحللون
إلى أن أجهزة الاستخبارات ــ وخاصة دائرة الاستعلام والأمن، وكالة الاستخبارات الجزائرية
حتى إعادة هيكلتها في عام 2015 ــ كان لها نفوذ كبير على كل من السياسة الداخلية والخارجية.
ويزعم البعض أن نفوذ الدولة العميقة، من السيطرة على السرديات في وسائل الإعلام إلى
التأثير على القرارات الاقتصادية، قيد الإمكانات الديمقراطية للنظام السياسي الجزائري.
على سبيل المثال، غالبا ما يُلام الدولة العميقة على تقييد حريات التعبير وخنق المعارضة
السياسية من خلال الرقابة والمراقبة، مما يعزز تصور بنية السلطة التي تعمل في سرية
وتحد من الوكالة العامة.
يزعم منتقدو مفهوم
الدولة العميقة أنه يبسط الديناميكيات السياسية المعقدة في الجزائر ويبالغ في تقدير
نفوذ الجيش. ووفقًا لهذه الرؤية، تتجاهل فكرة الدولة العميقة الفروق الدقيقة في التطور
المؤسسي في الجزائر، وتؤطرها ككيان متجانس بدلاً من هيكل سلطة متعدد الأوجه، وفي بعض
الأحيان، مثير للجدل. وفي حين أن الجيش وأجهزة الاستخبارات لها نفوذ لا يمكن إنكاره
في السياسة الجزائرية، إلا أنها ليست متماسكة عالميًا ولا تتصرف بنية واحدة. طوال تاريخ
الجزائر الحديث، غالبًا ما اختلفت الفصائل داخل الجيش والحكومة، مما أدى إلى صراعات
داخلية على السلطة وتحولات في النفوذ.
بالإضافة إلى ذلك،
فإن مفهوم الدولة العميقة يخاطر بتجاهل قدرة المواطنين الجزائريين على التصرف. فقد
شهدت الجزائر تعبئة شعبية كبيرة في السنوات الأخيرة، وخاصة خلال حركة الحراك في عام
2019، والتي شهدت خروج الملايين إلى الشوارع للمطالبة بالإصلاح السياسي واستقالة بوتفليقة.
إن الطبيعة السلمية لهذه الحركة ونجاح الجمهور في الدفع نحو التغييرات، مثل استقالة
بوتفليقة في نهاية المطاف، يوضح حدود سيطرة الدولة العميقة على المجتمع الجزائري. ويشير
هذا التعبئة إلى أنه في حين قد تتمتع بعض المجموعات النخبوية بسلطة كبيرة، إلا أنها
ليست محصنة ضد الضغط العام ولا يمكنها قمع التعبير الديمقراطي تمامًا.
ومن بين الانتقادات
الأخرى الموجهة إلى سرد الدولة العميقة أنها تعمل ككبش فداء ملائم لفشل المسؤولين المنتخبين
والمؤسسات. ويمكن لقادة الحكومة المدنية إلقاء اللوم على الدولة العميقة في اتخاذ قرارات
غير شعبية أو فشل سياسات، مما يحول المساءلة بعيدًا عنهم. وبهذا المعنى، يمكن النظر
إلى الدولة العميقة باعتبارها أسطورة سياسية تقدم تفسيرًا مبسطًا لتحديات الحكم في
الجزائر، حتى عندما قد تنبع هذه القضايا من عدم الكفاءة المؤسسية، أو الصعوبات الاقتصادية،
أو عدم الاستقرار الإقليمي بدلاً من بنية السلطة غير المرئية والقوية.
عند تقييم الدولة العميقة
في الجزائر، يتضح أن هذه الظاهرة ليست مجرد أسطورة أو حقيقة لا لبس فيها. فالمشهد السياسي
في الجزائر يشمل تأثيرات لا يمكن إنكارها من الأجهزة العسكرية والاستخباراتية، وتلعب
هذه الكيانات دورًا كبيرًا في حكم البلاد. ومع ذلك، فإن فكرة الدولة العميقة المتماسكة
والقوية تسيء تمثيل تعقيدات هياكل السلطة في الجزائر وتتجاهل الدور المتطور للوكالات
العامة والمجتمع المدني.
من المرجح أن تكمن
الحقيقة بين هذين النقيضين. ففي حين تشير الأدلة إلى أن بعض شبكات النخبة تعمل بنفوذ
كبير خارج نطاق الرأي العام، فإن هذه الشبكات ليست متجانسة ولا منفصلة تمامًا عن الضغوط
الديمقراطية. ويؤكد التاريخ الحديث للجزائر، وخاصة الأحداث المحيطة بحركة الحراك، على
أهمية الاعتراف بنفوذ النخبة والمرونة العامة في تشكيل المسار السياسي للبلاد. وعلى
هذا النحو، ربما يكون من الأفضل فهم الدولة العميقة في الجزائر باعتبارها مساحة سائلة
ومتنازع عليها بدلاً من كيان جامد لا يتغير.
0 التعليقات:
إرسال تعليق