الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الأحد، نوفمبر 24، 2024

تأملات فكرية لكاتب مغربي شاهد على عصر الثورة التكنولوجية : عبده حقي


 بداية لا يسعني إلا أن أشكر إذاعة طنجة المتألقة والرائدة على إتاحتي هذه النافذة من التأملات لأطل من خلالها على متتبعي هذه المحطة الإعلامية المحبوبة التأملات التي اخترت أن أعنونها ب(تأملات كاتب مغربي شاهد على عصر الثورة الرقمية)

لقد فكرت كثيرا في محور هذه التأملات غير أنني كنت أشعر وكأنني أعيش تاريخًا قلقا ومتسارعًا. بينما أجلس في مكتبي، وأصابعي على لوحة مفاتيح لم تعد متصلة بجهاز بل بسحابة لا نهائية من المعلومات والملفات والبيانات، لا يسعني إلا أن أفكر في كيفية تحول العالم الذي نشأت فيه منذ ستينات القرن الماضي . من عالم بسيط ، تلقائي وطبيعي إلى عالم أراه اليوم قد سلم نفسه للتكنولوجيا الرقمية والذكاء الاصطناعي بحماسة تبدو متفائلة ومتهورة في الوقت نفسه.

أتذكر الصحافة في أيام شبابي. حفيف الصحيفة بين يدي القراء ، ورائحة الورق التي لا تخطئها العين، والثقة التي وضعناها في أعمدة الكلمات المخطوطة بحب وبدقة. كان الصحفيون رواة أخبار، ومحققين، وباحثين، وكاتبي آراء صادقة وعميقة يخوضون المجازفات لتقديم معلومات لتشكل الوعي والرأي العام. واليوم، لقد اغتصبت الخوارزميات نفس الأدوار ــ أو ربما توسعت ــ. حيث يكتب الذكاء الاصطناعي النصوص الإخبارية الآن، وفي كثير من الحالات، يفعل ذلك بسرعة مهولة، وبتكلفة أقل، وبأقل قدر من الأخطاء مقارنة بما كان البشر ليفعلوه على الإطلاق.

لقد حلت الكفاءة الباردة محل اللمسة الإنسانية الدافئة، والفهم الدقيق للجوهر العاطفي للخبر. ذات مرة قرأت مقالا عن الحرب على غزة كتب بالكامل بتقنية الذكاء الاصطناعي؛ كان دقيقا، نعم، لكنه مع كامل الأسف كان خاليا من روح التفاعل الإنساني. لقد اختُزلت معاناة الضحايا في نقاط بيانات، وفقدت إنسانيتهم ​​في النثر العقيم لمنطق الآلة. وأخشى أن يكون هذا هو المكان الذي نقف فيه: على حافة عالم حيث لم تعد الفنون والصحافة والأدب انعكاسات للتجربة الإنسانية بل محاكاة لها.

لقد خضع الأدب بدوره أيضًا لثورته الخاصة. أتذكر عندما كنت أشعر أن الكتابة بمثابة عمل تمرد. كانت كل قصيدة شعرية أو قصة كتبتها بمثابة عمل أحببته، بمثابة قطعة من روحي سُكِبَت في الصفحة البيضاء أمامي. اليوم، يواجه الكتاب تحديًا غريبًا. يمكن لأدوات الذكاء الاصطناعي إنشاء قصائد وقصص قصيرة وحتى روايات كاملة في ثوانٍ معدودة. إنها منتوجات أدبية تحاكي الأنماط، وتقلد الأصوات، وتخلق سرديات يمكن أن تخدع حتى أكثر النقاد تمييزًا.

ويمتد نفس القلق إلى الفنون. فاللوحات التي ترسمها الذكاء الاصطناعي تباع بملايين الدولارات في المزادات. ويؤلف الملحنون الرقميون سيمفونيات دون أن يلمسوا آلة موسيقية قط. فماذا يحدث إذن للإبداع البشري اليوم؟ هل ينبغي لنا أن نحتفي به أم نرمي به جانبا؟ وإذا لم يعد الفن مجالا للروح البشرية، فهل لا يزال قادرا على تحريكنا بنفس الطريقة؟

ولكن التحولات التي أحدثها الذكاء الاصطناعي لا تقتصر على عوالم الثقافة فقط. فقد تسربت إلى نسيج علاقاتنا وعملنا وإنسانيتنا. فالتجمعات العائلية، التي كانت في السابق لمات صاخبة طافحة بالضحك والحوارات والنقاشات الحميمية، أصبحت صامتة بشكل مخيف. وكل شخص ملتصق بجهاز هاتفه الذكي الخاص ، متصلاً بالجميع ولا أحد في نفس الوقت. حتى بيتي يبدو مختلفاً. فمساعدتي الافتراضية، وهي صوت ودود من الذكاء الاصطناعي، تدير جدول أعمالي، وتتحكم في الأضواء، وتجيب على أسئلتي بدقة مقلقة.

ولكن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد. فقد بدأت هذه الآلات تتوسط حياتنا الاجتماعية أيضًا. فقد أصبحت الصداقات تُبنى وتُحافظ عليها من خلال التفاعلات الرقمية على منصات التواصل الاجتماعي فيس بوك وتيك توك وإنستغرام. وأصبحت المغازلة، التي كانت في السابق رقصة من الضعف والجهد، تقتصر على التمرير والخوارزميات. وحتى أعمق مشاعرنا يتم تصفيتها من خلال عدسة التكنولوجيا.

لقد شاهدت منصات التواصل الاجتماعي، المدعومة بالذكاء الاصطناعي، وهي تتلاعب باهتماماتنا، وتغذينا بمحتوى يؤكد انحيازانا ويثير مخاوفنا. لم يعد الأمر يتعلق بالتواصل - بل يتعلق بالسيطرة. هذه المنصات أصبحت تعرفنا بشكل أفضل مما نعرف أنفسنا، وهي تستخدم هذه المعرفة لتشكيل سلوكنا بطرق لا نفهمها بالكاد.

وهناك فصل مقلق آخر يتعلق بمسألة الشغل. وهنا يبدو التهديد الذي يشكله الذكاء الاصطناعي ملموسا للغاية ومباشرا. فالمصانع التي كانت تعج بالعمال في الماضي أصبحت الآن فضاءات خالية وصامتة، وتتولى آلات لا تعرف الكلل تنفيذ مهامها. كما أن العديد من المهن المكتبية لم تعد محصنة أيضا. فالخوارزميات تستطيع تحليل البيانات، ووضع العقود، بل وتقدم المشورة القانونية حتى . بل الآن يتم إعادة تشكيل صناعات بأكملها، ويتساءل كثيرون منا: ماذا سيحدث للعمال البشر  في عالم لم يعد في حاجة إليهم ؟

لقد تحدثت إلى أصدقاء في هذه المواضيع، وكانت إجاباتهم مليئة بالقلق. بعضهم متفائلون، مقتنعون بأن هذا التحول سوف يخلق فرصاً جديدة وأنواعاً جديدة من الوظائف. والبعض الآخر كان أقل ثقة، وكانوا يخشون مستقبلاً حيث ستتسع الفجوة بين أولئك الذين يسيطرون على هذه التقنيات وأولئك الذين لا يسيطرون عليها.

وهذا يقودني إلى لب اهتمامي: مصير البشرية ذاتها. ماذا يعني أن تكون إنساناً في عصر تستطيع فيه الآلات تقليد أفكارنا وعواطفنا وإبداعاتنا؟ هل سنصبح مجرد متفرجين على حياتنا، نشاهد الذكاء الاصطناعي يتفوق علينا في كل المجالات؟ أم سنجد طريقة للتعايش، والاستفادة من هذه القوة دون أن نفقد أنفسنا في هذه العملية؟

إنني أخشى أن ننسى أننا نتحرك بسرعة مفرطة، متحمسين بإغراء التقدم دون أن نتوقف لنسأل أنفسنا إلى أين سيقودنا. مما لاشك فيه أن هذه الثورة تتسم بالتهور، والشعور بأننا نبني عالما لا نفهمه تماماً. وفي اندفاعنا نحو الابتكار، نخاطر بفقدان الحكمة والبصيرة بالأشياء ذاتها التي تجعل الحياة تستحق أن نعيشها: صلاتنا ببعضنا البعض، وقدرتنا على الدهشة، وقدرتنا على الإبداع.

ولكن حتى وأنا أكتب هذه الكلمات، فإنني أتذكر قدرة البشرية دائما على الصمود. فقد واجهت البشرية ثورات لا حصر لها من قبل ــ الصناعية والعلمية والرقمية ــ وفي كل مرة، كانت نتكيف مع التحول . ولعلنا نتكيف مع هذه الثورة أيضا. ولعلنا نجد وسيلة لضمان أن تخدمنا التكنولوجيا، وليس العكس.

ولكن الأسئلة الحائرة تظل قائمة. كيف نحقق التوازن بين الابتكار والأخلاق؟ وكيف نضمن تقاسم فوائد الذكاء الاصطناعي بالتساوي؟ وكيف نحافظ على إنسانيتنا في مواجهة الآلات التي يمكنها بسهولة تقليدها؟

لا أملك الإجابات على هذه الأسئلة. ولكنني أعلم أن علينا أن نبدأ بطرح الأسئلة الصحيحة. ويتعين علينا أن ننظر إلى ما هو أبعد من وعود الكفاءة والراحة وأن نفكر في العواقب الأعمق المترتبة على هذه الثورة.

عندما أغلق دفتر ملاحظاتي الورقي ـ وهو من بقايا عصر مضى ـ أشعر ببريق من الأمل. فنحن في نهاية المطاف مهندسو هذا العالم. وإذا امتلكنا الحكمة والشجاعة الكافية لتوجيه هذه الثورة بعناية وحرص، فربما نتمكن من خلق مستقبل لا يتميز بالتقدم التكنولوجي فحسب، بل ويتسم أيضاً بالعمق والدفء الإنساني.

شكرا مرة أخرى لإذاعة طنجة ومعدة برنامجها تأملات وإلى فرصة قادمة بحول الله.

0 التعليقات: