لقد أشعلت الهزات السياسية التي ترج الجزائر التكهنات بين المحللين حول ما إذا كانت البلاد قد تتبع مسار سوريا في مشاهدة انهيار نظام استبدادي راسخ. وبما أن الجزائر تقف كواحدة من آخر معاقل حقبة الحرب الباردة في المنطقة، فإن انهيارها المحتمل قد يشير إلى تحول عميق في الجغرافيا السياسية في شمال أفريقيا والمغرب الكبير. إن دراسة العوامل التي قد تؤدي إلى مثل هذا السيناريو والتداعيات المترتبة على تحول الجزائر تكشف عن شبكة معقدة من الديناميكيات الإقليمية والمصالح العالمية وتطلعات الملايين.
ظلت البنية السياسية
في الجزائر قائمة منذ فترة طويلة بفضل إرث نضالها من أجل التحرير، ونظام مركزي يهيمن
عليه الجيش، واقتصاد يعتمد بشكل كبير على الهيدروكربونات. ومع ذلك، أصبحت التصدعات
في هذا النظام واضحة بشكل متزايد. فقد كشف الحراك الشعبي، الذي ظهر في عام 2019، عن
استياء واسع النطاق من الفساد والركود الاقتصادي ونقص الحريات الديمقراطية. وقد تم
الاحتفال بإزالة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة باعتباره انتصارًا للتعبئة الشعبية، لكن
التعديلات السياسية اللاحقة فشلت في معالجة القضايا البنيوية الأعمق. وتعمل هذه الاضطرابات
المستمرة كتذكير بهشاشة النظام السياسي في الجزائر، مما يذكرنا بالتحركات الأولية للسخط
في سوريا.
إن نقاط الضعف الاقتصادية
تشكل تهديداً كبيراً لاستقرار الجزائر. فقد أدى اعتماد البلاد على صادرات النفط والغاز
إلى جعل اقتصادها عرضة لتقلبات السوق العالمية. كما أدى انخفاض أسعار الطاقة إلى تقليص
عائدات الدولة، الأمر الذي حد من قدرة الحكومة على تمويل الخدمات العامة والإعانات
التي كانت تهدئ الجماهير تاريخياً. ويمثل الشباب المحبطون، الذين يتصارعون مع ارتفاع
معدلات البطالة والآفاق القاتمة، قوة اجتماعية متقلبة. ويعكس الضيق الاقتصادي، إلى
جانب الفساد النخبوي، الديناميكيات التي سادت قبل الانهيار في سوريا، حيث أدت الإحباطات
الاجتماعية والاقتصادية إلى تأجيج الانتفاضات الجماهيرية.
إن قبضة الجيش على
السلطة تستحق التدقيق أيضاً. وكثيراً ما يوصف النظام السياسي في الجزائر بأنه
"دولة ظل"، حيث يمارس الجنرالات غير المنتخبين نفوذاً كبيراً على القرارات
الرئيسية. وفي حين كان الجيش تقليدياً قوة استقرار، فإن هيمنته تنفر المجتمع المدني
وتقوض التطلعات الديمقراطية. وإذا فشلت النخبة العسكرية في سن إصلاحات حقيقية، فإن
جمودها قد يؤدي إلى إثارة المعارضة على نطاق واسع، مما يتصاعد إلى أزمة أكثر حدة. وقد
يؤدي شبح الصراع الداخلي على السلطة داخل الجيش نفسه إلى زعزعة استقرار النظام، على
غرار الكيفية التي أدى بها الانقسام إلى تفاقم انحدار سوريا إلى الفوضى.
وتضيف الديناميكيات
الجيوسياسية طبقة أخرى من التعقيد. فقد ساهمت تحالفات الجزائر في الحرب الباردة، وخاصة
مع روسيا، وموقفها العدائي تجاه المغرب المجاور في تشكيل سياستها الخارجية وخطابها
المحلي. ومع ذلك، لم تعد هذه التحالفات مستقرة كما كانت في السابق. ويحد تركيز روسيا
على التحديات الجيوسياسية الخاصة بها، وخاصة في أوكرانيا، من قدرتها على تقديم الدعم
القوي للجزائر. وفي الوقت نفسه، تعمل العلاقات المتوترة بين الجزائر والقوى الغربية،
إلى جانب علاقاتها الفاترة مع جيرانها الإقليميين، على عزلها بشكل أكبر. وقد يؤدي انهيار
النظام إلى فتح الباب أمام التأثيرات الخارجية المتنافسة، مما قد يؤدي إلى صراع جيوسياسي
حول المسار المستقبلي للجزائر.
إن تداعيات مثل هذا
الانهيار سوف تمتد إلى كل أنحاء المغرب الكبير ، مما قد يؤدي إلى إعادة تشكيل نسيجه
السياسي والاجتماعي. والأمر الأكثر أهمية هو أن حل نزاع الصحراء قد يصبح أكثر قابلية
للتحقيق. لقد كان دعم الجزائر القوي لجبهة البوليساريو عقبة أساسية في حل النزاع المستمر
منذ عقود. وقد يؤدي ضعف النظام الجزائري أو انتقاله إلى خفض أولوية هذه القضية الخلافية،
مما يفتح المجال أمام الحوار بوساطة. وقد ينتهز المغرب، بدعمه الدولي المتزايد لخطته
للحكم الذاتي للصحراء الغربية، الفرصة لتحقيق اختراق دبلوماسي، مما يمهد الطريق أمام
مغرب أكثر تكاملاً.
إن تخفيف التوترات
السياسية في مختلف أنحاء المنطقة من شأنه أن يشكل نتيجة تحويلية أخرى. فقد اتخذت القيادة
الجزائرية الحالية في كثير من الأحيان موقفا عدائيا تجاه المغرب، الأمر الذي أدى إلى
تأجيج الأزمات الدبلوماسية وإعاقة التعاون الإقليمي. ومن الممكن أن يتبنى المشهد السياسي
الجزائري المعاد تشكيله نهجا أكثر تصالحية، مما يعزز المناخ المواتي لمعالجة التحديات
المشتركة مثل الإرهاب والهجرة والتنمية الاقتصادية. وعلاوة على ذلك، قد تجد التحالفات
الإقليمية مثل اتحاد المغرب العربي، التي عرقلتها لفترة طويلة التنافس الجزائري المغربي،
أهمية متجددة كمنصات للتقدم الجماعي.
ولكن هذه الفرص تأتي
مع مخاطر كبيرة. فالفراغ الذي يخلفه انهيار النظام الجزائري قد يؤدي إلى صراعات على
السلطة، أو اضطرابات مدنية، أو حتى تدخلات خارجية. وقد تستغل الجماعات المتطرفة العاملة
في منطقة الساحل وشمال أفريقيا مثل هذا عدم الاستقرار لتوسيع نفوذها. وتؤكد دروس التفتت
في سوريا على مخاطر التحولات غير المنسقة، حيث تعطي الجهات الفاعلة الخارجية الأولوية
للمصالح المتنافسة على رفاهة السكان. ويتطلب ضمان انتقال مستقر في الجزائر جهدا متضافرا
من جانب أصحاب المصلحة الإقليميين والدوليين لمنع الانزلاق إلى الفوضى.
إن الشعب الجزائري
نفسه سوف يلعب دوراً محورياً في تشكيل مسار البلاد. فقد أظهرت حركة الحراك الشعبي الإمكانات
الكامنة في التعبئة الشعبية السلمية لإحداث التغيير. وسوف تحتاج منظمات المجتمع المدني
والناشطون الشباب والأصوات المؤيدة للإصلاح إلى التمكين لقيادة الطريق نحو تصور مستقبل
ديمقراطي وشامل. ومن الممكن أن يدعم المجتمع الدولي، وخاصة الاتحاد الأوروبي والدول
المجاورة، هذه الجهود من خلال تقديم المساعدات الاقتصادية، وتسهيل الحوار، وإعطاء الأولوية
للاستقرار على المكاسب الاستراتيجية القصيرة الأجل.
إن الجزائر تقف عند
مفترق طرق حيث تخوض قوى الاستمرارية والتغيير صراعاً غير مؤكد. ورغم أن سيناريو الانهيار
على غرار سوريا ليس حتمياً، فإن العوامل التي تغذي التكهنات حول مثل هذه النتيجة حقيقية
لا يمكن إنكارها. ويتطلب التصدي لهذه التحديات قيادة جريئة، وإصلاحات شاملة، والالتزام
بتجاوز إرث حقبة الحرب الباردة الذي لا يزال يطارد المنطقة. وإذا نجحت الجزائر في اجتياز
هذه اللحظة الحرجة بنجاح، فلن تتمكن من تجنب الأزمة فحسب، بل وستبرز أيضاً كمحفز للسلام
والتعاون في منطقة المغرب العربي، ورسم مسار جديد لشعبها والمنطقة ككل.
0 التعليقات:
إرسال تعليق