الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


السبت، مارس 15، 2025

أقسى المتلازمات صفحة فارغة : عبدو حقي


صفحة بيضاء، لكنها ليست فارغة. إنها حقل من الاحتمالات المتجمدة، تتردد فيها الكلمات كطيور مهاجرة فقدت بوصلتها. يزداد حبر قلمي كثافة .. رفضًا صامتًا.

أحدق في الهاوية، والهاوية البيضاء - متكبرة، غير مبالية - تحدق بي، لا كفراغ، بل ككتلة كثيفة تستبعدني وتقصيني.

عكس كل هذا هي ليست صفحة فارغة؛ إنها صفحة ممتلئة ، بياضٌ لا يُخترق يمتص كل الظلال، كل الأصوات، كل الحركات. أضع يدي عليها، فيبدو الأمر كملامسة مرآة لا تعكس شيئًا، أو أسوأ من ذلك، مرآة لا تعكس إلا ما لا أستطيع أن أغذو عليه.

أحاول استحضار كلمة، لكن الكلمات أصبحت أسماكًا تسبح في أعماق محيط ذهني المعتم، وأنا فاقد للشبكة. يتموج الماء مع حركتها، يضايقني، لكنها ترفض أن تطفو على السطح. أسمع همساتها، همهمات غامضة في تلافيف جمجمتي، لكنها لا تُلتقط . أضغط برأس قلمي على الصفحة، أحرثها ، آملاً أن أخترق الصمت، لكن كل ما يظهر هو نقطة سوداء صغيرة، نواة بلا معنى لقصة تأبى أن تولد.

يتمدد الزمن، وينكمش. ثعبان يلتف حول معصمي، يشدّ قبضته. أشعر بثقل القرون يضغط عليّ. هل عانى الكاتب الأول، أول راوي قصص، مثله؟ أتخيل أحد أسلافي، رابضًا في وهج نار خافت، يحدّق في جدار صخري، ينتظر اللحظة التي ستتجسد فيها أشكال الغزلان والصيادين تحت يديه. ربما عرف هو أيضًا هذا الرعب - رعب الخلق الذي توقف عند حافة الهاوية، التوتر الذي لا يُطاق قبل الضربة الأولى.

أغمض عينيّ، آملًا أن أهرب من طغيان الصفحة. في ظلمة جفني، تومض الأشكال وتتلاشى: امرأةٌ تُحوّل دمها إلى حبر، مدينةٌ لا وجود لها إلا في لغاتٍ منسية، رجلٌ يستيقظ كل صباحٍ كنسخةٍ مختلفةٍ من نفسه. تنبض هذه الصور، ومعانيها سائلةٌ وغير مؤكدة. أُحاول الوصول إليها، لكنها تتراجع، تُغيظني، تضحك على محاولاتي الخرقاء. إنها أشباحٌ تحومُ بعيدًا عن متناول النطق.

أفتح عينيّ مجددًا. لا تزال الصفحة هناك، شاسعةً لا هوادة فيها، وأُدرك أنني أصبحتُ أسيرها. إنها صحراء، صحراءٌ بلا أفق، وأنا ساكنها الوحيد، محكومٌ عليّ بالتيه بحثًا عن واحةٍ من المعنى. الصحراء من الصمت، لكنه صمتٌ يزأر كأسد جوعان. ليس غياب الكلمات، بل حضورُ شيءٍ أعظم: ما لا يُقال، ما لا يُقال، الكلمات التي تتجاوز اللغة.

أبدأ بالتساؤل إن كان هذا ما يشعر به آدم قبل أن تُنطق الكلمة الأولى، قبل أن يشقّ النورُ الأولُ الظلامَ اللامتناهي. هل كان هناك تردد في تلك اليد الإلهية؟ هل قاوم الفراغ الخلق بشراسة كما تقاوم هذه الصفحة حبري؟ تُقلقني الفكرة. حتى لو تردد خالق العوالم، فما هي فرصتي؟

ومع ذلك، في أعماقي، يثور تمردٌ كوني. همسة، تكاد لا تُدرك: أكتب. ليس لأن الكلمات ستكون مثالية. ليس لأنها ستكون ذات معنى. بل لأن فعل الكتابة فعل تحدٍّ، تحدٍّ يُلقى في وجه الصمت. يرتجف القلم بين أصابعي، فأُنحدر به مجددًا إلى مطار الصفحة. تظهر كلمة، ثم أخرى. إنها فظة، غير مُشكّلة، لكنها لي. تقاوم الصفحة، لكنني أمضي قدمًا، أشق طريقي عبر بياضها العنيد.

تبدأ الكلمات بالتدفق، مترددة في البداية، ثم بثقة أكبر. لم تعد الصفحة صحراء؛ إنها نهر، وأنا أحمله مع تياره. تتشكل الآن الأشباح التي سخرت مني، وأصواتها صافية. تروي لي المرأة التي تستبدل دمها بالحبر قصتها. تكشف مدينة اللغات المنسية أسرارها. الرجل الذي يستيقظ كل صباح بذاته المختلفة ينطق اسمه أخيرًا.

لا أغزو الصفحة البيضاء. لا أحد يفعل ذلك أبدًا. لم تُخلق للغزو، بل لاجتيازها واستكشافها ومعاناتها والانفكاك منها. إنها متاهة بلا مخرج، سؤال بلا إجابة، لكن في ممراتها اللانهائية وغرفها المترددة، أجد شيئًا غير متوقع: صوت خطواتي، وإيقاع صوتي. لا تزال الصفحة واسعة، بيضاء، لكن الآن، في وسطها، ثمة علامة. علامة على أنني كنت هنا، وأنني سلكت هذا الطريق، وأنني واجهت الهاوية - وكتبت طريقي عبرها.

0 التعليقات: