الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


السبت، أبريل 26، 2025

تساؤلات حول الاحتفاء باليوم العالمي للملكية الفكرية 2025: عبده حقي


في هذا اليوم، السادس والعشرين من أبريل، الذي تحتفي فيه الإنسانية باليوم العالمي للملكية الفكرية، أجدني مضطرًا إلى التوقف طويلًا أمام التحولات العاصفة التي باتت تهدد المفهوم الكلاسيكي للإبداع ذاته. كنتُ في سنوات خلت أنظر إلى الإبداع، بكل ألوانه الأدبية والفنية والصناعية، بوصفه ذاك النبض الفريد الذي لا يمكن إلا لروح الإنسان أن تبثه في الكون. لكن اليوم، ومع الطفرة الهائلة في تقنيات الذكاء الاصطناعي، أصبحت أطرح على نفسي، وعلى العالم من حولي، أسئلة تزلزل اليقين الراسخ: لمن تعود حقوق النص الذي صاغته الآلة؟ ومن يملك براءة اختراع فكرة صاغتها خوارزمية؟

الذكاء الاصطناعي، الذي كان في بداياته أداة مساعدة تُسرع العمليات وتختصر المسافات، تحول تدريجيًا إلى كيان مبدع بحد ذاته. فقد رأيت منصات الكتابة التلقائية، كـ"ChatGPT" و"Claude"، تنتج روايات وقصائد ومقالات تضاهي أحيانًا أقلامًا بشرية مخضرمة. وتابعت بشغف، وأحيانًا برعب، كيف رسمت برامج الذكاء الاصطناعي لوحات فنية فازت بجوائز عالمية، وكيف وضعت تصاميم صناعية معقدة أدهشت المهندسين أنفسهم. بدا لي المشهد كما لو أن المبدع البشري قد وجد في نفسه توأمًا غير بيولوجي، ينافسه في مجاله الأثيري.

ولعل ما يجعل سنة 2025 مختلفة، هو الوعي المتزايد بهذه الثورة الصامتة. فقد أصبح واضحًا، حتى للمترددين، أن قوانين الملكية الفكرية التقليدية لم تعد قادرة على مواكبة الزمن الجديد. بل إن المنظمة العالمية للملكية الفكرية (WIPO) دعت، في بيانها الرسمي هذا العام، إلى "ثورة تشريعية عالمية تعيد تعريف مفهوم المؤلف والمخترع، بما يتلاءم مع الحضور المكثف للذكاء الاصطناعي في ساحة الإبداع". دعوة لم تكن لتعبر عن مزاج قانوني بارد، بل عن إحساس عميق بالخطر المحدق بهوية الإنتاج الإنساني.

في الأدب مثلًا، رأيت بعيني كيف أصبحت بعض دور النشر تتلقى مخطوطات صاغها الذكاء الاصطناعي بناءً على أوامر بشرية بسيطة. ورأيتُ كتّابًا شبابا يعتزون بتعاونهم مع الآلة، معتبرينها شريكة وليست خصمًا. لكنني في المقابل عاينتُ أيضًا حالة قلق وجودي يعيشها الأدباء الحقيقيون، أولئك الذين يرون أن الجوهر العميق للنص الأدبي — أي الشعور، والتجربة، والوعي المأساوي بالزمن — لا يمكن أن يُستنسخ رقميا، مهما بلغت براعة الخوارزميات.

أما في مجال الفن التشكيلي، فقد اجتاحت الذكاء الاصطناعي موجة عاتية من الإبداعات المذهلة. منصات مثل "Midjourney" و"DALL-E" أنتجت لوحات تجمع بين الأنماط الانطباعية والسريالية والتجريدية بلمسات خارقة. صحيح أن الإنسان ما زال يحرك الخيوط الخلفية عبر الكلمات المفتاحية، ولكن هل يظل بذلك "فنانًا" أم يتحول إلى مجرّد مُحرّض على الإبداع؟

في المجال الصناعي، بدا التأثير أكثر دراماتيكية. إن ابتكارات الذكاء الاصطناعي في مجالات التصميم الهندسي، والدوائي، وتطوير براءات الاختراع، فتحت آفاقًا غير مسبوقة، لكنها في الوقت ذاته فجّرت نزاعات قانونية معقدة. من المسؤول عن فكرة ابتكرها نظام ذكاء اصطناعي مستقل؟ هل هو المبرمج الذي وضع القواعد الأولى؟ أم الشركة المالكة؟ أم أن الفكرة تصبح بلا مالك، متروكة للإنسانية كما تركت الحكايات الشعبية بلا مؤلف؟

في خضم هذا المشهد المربك، أدركت أن الاحتفال باليوم العالمي للملكية الفكرية هذا العام لا ينبغي أن يكون مجرد طقس روتيني أو مناسبة للاحتفاء بإنجازات الماضي. بل يجب أن يتحول إلى لحظة تفكير جاد في مستقبل الإبداع نفسه. فنحن نعيش لحظة شبيهة بتلك التي وصفها والتر بنيامين في دراسته الشهيرة "العمل الفني في عصر إعادة إنتاجه الميكانيكي"، حين أشار إلى أن التقنية تعيد تعريف علاقتنا بالأصالة والفرادة. واليوم، مع الذكاء الاصطناعي، لا نتحدث عن "إعادة إنتاج"، بل عن "إعادة خلق".

لقد آن الأوان أن نضع نصب أعيننا مبادئ جديدة تنظم العلاقة بين الإنسان والآلة. مبادئ لا تنكر فضل الذكاء الاصطناعي، لكنها تحمي الجوهر البشري للإبداع. قد يكون من المفيد هنا أن نستدعي بعض التجارب الدولية الحديثة، مثل توجه الاتحاد الأوروبي نحو إلزام الشركات بتوضيح ما إذا كان العمل الإبداعي من إنتاج ذكاء اصطناعي، أو مبادرة الصين إلى إنشاء إطار قانوني يميز بين "الإبداع البشري" و"الإبداع الآلي".

وبينما أكتب هذه السطور، لا أملك إلا أن أطرح أمنية في ختام هذا اليوم العالمي: أن ننجح في صياغة قانون عالمي عادل، يضمن حق الإنسان في الإبداع الأصيل، دون أن ينكر دور الذكاء الاصطناعي كأداة مساعدة، لا كمبدع بديل. فالمستقبل لا ينتظر المترددين، ولا يرحم الغافلين عن سرعة الريح التي تقودنا نحو عوالم لم نحلم بها إلا في الخيال العلمي.

اليوم، أكثر من أي وقت مضى، يجب أن نحمي الفكرة، والقصيدة، والاختراع، كمن يحمي شعلة صغيرة من عاصفة هوجاء. فالملكية الفكرية ليست مجرد حق قانوني، بل هي جوهر إنسانيتنا نفسها.

0 التعليقات: