لطالما كانت الرواية بالنسبة لي فضاءً سريًا أهرب إليه كلما ضاقت بي الأرض. كنت، وأنا أتصفح صفحات "مائة عام من العزلة"، أو "الصخب والعنف"، أحس أني أعبر بوابات غير مرئية نحو قرى وقصور وسراديب محفوفة بالرموز. لكنني اليوم، وأنا أراقب ما يحدث في الميتافيرس، أدرك أن هذا الإحساس القديم على وشك أن يكتسب أبعادًا جديدة، أشبه بالانتقال من الحلم بالكلمات إلى معايشة الحلم بالجسد والعينين.
في السنوات الأخيرة،
انقلبت موازين السرد رأسًا على عقب مع ظهور مصطلحات مثل "الرواية التفاعلية"
و"الأدب الغامر". وفقًا لدراسة نشرتها مجلة «Wired» سنة 2023، فإن أكثر من 30% من مستخدمي الميتافيرس
الشباب يشاركون بشكل منتظم في تجارب سردية تفاعلية تدمج بين النصوص والصور ثلاثية الأبعاد
والصوتيات المتحركة، مما يدل على بداية تحول جذري في علاقة القارئ بالنص. لم نعد نكتفي
بالقراءة؛ أصبحنا نعيش القصة.
منذ إعلان مارك زوكربيرغ
عن مشروع "ميتا" سنة 2021، وتحديده للميتافيرس كـ"جيل جديد للإنترنت"،
بدأ الكُتّاب والمبرمجون معًا استكشاف احتمالات تحويل الروايات إلى بيئات افتراضية
قابلة للاستكشاف، حيث يمكن للقارئ أن يتجول بين مشاهد الرواية كما يتجول بين غرف قصر
قديم. أصبح بالإمكان أن لا نكتفي بقراءة وصف مدينة خيالية، بل أن نمشي في شوارعها،
ونطرق أبوابها، ونشهد أحداثها كما لو كنا شخصيات ثانوية ضمن حبكة تتغير استنادًا إلى
خياراتنا.
وأنا أتابع هذه الثورة،
أجدني مشدودًا إلى تجربة رواية «نيل
ستيفنسون»
الافتراضية التي ألهمت
الكثيرين:
"تحطم الثلج". لقد كانت مجرد خيال علمي في تسعينيات القرن
الماضي، لكنها اليوم تحولت إلى واقع فعلي. لم تعد بيئات الرواية مجرد أدوات لوصف العالم،
بل أصبحت عوالم كاملة تخلق بالقوانين الفيزيائية والفلسفية التي يختارها الكاتب.
في المغرب، حيث تنمو
الاهتمامات الرقمية بوتيرة متسارعة، أرى في هذا التحول فرصة ثمينة للأدب المغربي كي
يخترق الحدود التقليدية. تخيلوا معي، على سبيل المثال، أن نحول رواية "الخبز الحافي"
لمحمد شكري إلى عالم افتراضي يستطيع القارئ أن يسير خلاله في أزقة طنجة القديمة، يصادف
شخصيات الرواية، يشم رائحة الميناء، ويسمع وقع الخطى على حجارة الأزقة المبللة! ألن
يكون هذا شكلاً أعمق من استعادة الذاكرة الجمعية؟
مع ذلك، لا بد أن أطرح
هنا سؤالاً يؤرقني: ماذا عن الأدب بوصفه تجربة تأملية، داخلية، تحتاج إلى صمت الكلمات
وتداعي الخيال بعيدًا عن الصور المعلبة؟ في كتابه "موت المؤلف"، يحذر رولان
بارت من خطر تلاشي سلطة القارئ الحر حين تُفرض عليه قراءات محددة سلفًا. هل يهدد الميتافيرس،
إذن، حرية الخيال لصالح تجربة حسية مباشرة تُفقد الأدب بعضًا من سرّه؟
إن التكنولوجيا ليست
معصومة من المخاطر. فكما يبرز تقرير صادر عن «نيويورك
تايمز» (2024) حول مستقبل
الميتافيرس، فإن التحديات الأخلاقية تزداد تعقيدًا مع تطور البيئات الافتراضية، من
حيث حماية حقوق الملكية الأدبية وحفظ التجربة الإنسانية الأصيلة من خطر التزييف والإبهار
التقني الفارغ.
ومع ذلك، لا أستطيع
ككاتب مغربي ينتمي إلى هذا الزمن أن أقف على الهامش. أدرك أن الميتافيرس، رغم كل مخاطره،
هو فرصة هائلة لإعادة التفكير في معنى الرواية وموقع القارئ ودور المؤلف. إننا على
مشارف ولادة شكل جديد من الكتابة: كتابة تُصاغ بالكلمات، لكنها تُعاش بالحواس الخمس.
كتابة لا تكتفي بأن تهمس للقارئ، بل تدعوه إلى الرقص وسط نصّ حيّ، إلى أن يغدو بدوره
جزءًا من الحكاية.
ربما، في زمن قريب،
سيحتاج الروائي المغربي إلى أن يصبح أيضًا مهندس عوالم رقمية، كما أصبح الروائي في
عصر النهضة رسامًا وموسيقارًا. وربما سنشهد يومًا تُفتتح فيه معارض افتراضية للرواية
المغربية، حيث لا تُقرأ النصوص فقط، بل تُسكن وتُعاش، تمامًا كما نسكن الذكريات.
في النهاية، أدب الميتافيرس
ليس إلغاءً للرواية كما عرفناها، بل هو امتداد لها، يشبه امتداد الشجرة في الضوء: تبدو
مختلفةً عن جذورها العميقة، لكنها لا تستطيع العيش بدونها.
0 التعليقات:
إرسال تعليق