حين وقعت عيناي للمرة الأولى على عنوان كتاب مالكوم غلادويل "The Tipping Point"، أحسست كما لو أنني مقبل على استكشاف سر من أسرار الطبيعة الاجتماعية التي تحكم عالمنا. هذا الإحساس لم يخِب، بل نما واتسع كلما انغمست أكثر في الصفحات التي جمعت بين التحليل السوسيولوجي، والحدس الصحفي، وروح السرد الشيق.
من فاس، حيث أكتب هذه السطور، وجدتني أستدعي مشاهد من واقعنا المغربي، مدننا وأسواقنا وحملاتنا الانتخابية، بل وحتى موضاتنا العفوية، وأنا أقرأ كيف أن ظواهر ضخمة يمكن أن تبدأ بتحولات صغيرة، شبه خفية، إلى أن تصل إلى "النقطة الحرجة" — تلك اللحظة السحرية التي ينقلب فيها كل شيء دفعة واحدة.
يستهل غلادويل كتابه
بفكرة مدهشة: أن الأفكار، والاتجاهات، والسلع، وحتى السلوكيات، تنتشر في المجتمعات
بطريقة تشبه إلى حد بعيد انتشار الفيروسات. ما إن تبلغ الظاهرة الاجتماعية حدًا معينًا
من التراكم، حتى تنفجر فجأة، كأنما أطلق سهمها من قوس مشدود إلى أقصى حد. وقد أسّس
غلادويل هذا المفهوم عبر ثلاثة محركات رئيسية: "قانون القلة"، و"عامل
اللصوق"، و"قوة السياق". كل محرك منها، بمثابة خيط دقيق في نسيج معقد
يفسر الانقلابات الاجتماعية.
توقفت كثيرًا عند
"قانون القلة". يذكّرني غلادويل هنا بأناس عرفتهم في حياتي، أفراد لا يتجاوز
عددهم أصابع اليد الواحدة، ولكن تأثيرهم يفوق أحيانًا تأثير جموع غفيرة. يتحدث عن
"الموصلين "
(Connectors)،
و"المتعلمين"
(Mavens)،
و"البائعين"
(Salesmen)،
وكيف أن لكل فئة دورها الخفي في إيصال فكرة أو موضة أو عادة إلى برّ الانتشار الجماهيري.
تذكرت رجلاً في حينا بفاس، كان يعرف الجميع، من الخضّار إلى مدير البنك، ومن المدرس
إلى السياسي. مجرد حديثه عن مقهًى جديد، كان كفيلاً بأن يتحول إلى ملتقى المدينة كله
خلال أسابيع قليلة.
ثم جاء الحديث عن
"عامل اللصوق"، أو ذلك العنصر الذي يجعل من الفكرة شيئًا لا ينسى، شيئًا
يلتصق بالذاكرة كالتوأم الذي لا يفارق أخاه. استحضرت عندها بعض الحملات الإعلانية المحلية،
تلك التي رغم بساطتها ظلت عالقة بأذهاننا سنينًا.
لغادويل أمثلة أكثر
عالمية: مثل كيف استطاعت برامج أطفال كـ"شارع سمسم" أن تحقق تأثيرًا تربويًا
عميقًا عبر ضبط تفاصيل دقيقة في طريقة عرض المحتوى.
أما "قوة السياق"،
فهي الفكرة التي شعرت أنها تمسنا نحن المغاربة بوجه خاص. الظروف، البيئة، اللحظة، كل
هذه ليست مجرد خلفية صامتة، بل فاعل رئيسي في دفع الظواهر نحو النقطة الحرجة. حين تحدث
غلادويل عن تجربة "نوافذ مكسورة" في نيويورك، والتي تربط بين تدهور البيئة
وزيادة الجريمة، وجدتني أفكر في أحياءنا المهمشة، وكيف يمكن لإصلاح بسيط في مدرسة أو
حديقة أن يغيّر نفسية حي بأكمله.
من الناحية الأسلوبية،
مالكوم غلادويل يمتلك ما يمكن أن أسميه "بلاغة السهل الممتنع". لا يغرق القارئ
في طوفان من المفاهيم الأكاديمية، بل يقوده في رحلة ممتعة بين القصص الحية، والدراسات
العلمية، والتجارب الميدانية. إن أسلوبه صحفي بامتياز، لكن بعمق فكري يجعل القارئ لا
يشعر بالسطحية. ربما لهذا السبب، وجدت نفسي ألتهم الصفحات التهامًا، كما يلتهم المسافر
المتعب قطع الخبز الساخن.
ومع ذلك، لا أنكر أنني
تساءلت أحيانًا عن مدى قابلية تعميم بعض استنتاجاته. فالعوامل التي تجعل من حذاء
"هاش بوبيز" أيقونة في نيويورك قد لا تعمل بالطريقة نفسها في فاس أو الدار
البيضاء. لكل مجتمع نبضه الخاص، وسياقاته الخفية التي لا تفصح عن نفسها بسهولة.
مع ذلك، فإن جوهر فكرة
غلادويل — أن التغييرات الكبيرة يمكن أن تبدأ بتعديلات صغيرة، في الوقت والمكان المناسبين
— يظل فكرة ملهمة، خاصة لمن يعيش في عالم سريع التقلبات كما هو حالنا اليوم.
أنهيت الكتاب وأنا
أحس أنني أحمل بيدي عدسة مكبرة جديدة، أنظر بها إلى تفاصيل الحياة اليومية. في البازار
الشعبي بفاس، أو في التغيرات المفاجئة في أذواق الشباب، أو في انفجار حملات التضامن
عبر مواقع التواصل. كل هذه الظواهر لم تعد بالنسبة لي مجرد مشاهد عابرة، بل إشارات
خفية، نذر لصواعق قادمة.
في النهاية، "The Tipping
Point" ليس مجرد
كتاب، بل طريقة جديدة لفهم العالم. طريقة تجعلني، وأنا المغربي المشبع بروح التحول،
أؤمن أن الشرارة القادمة ربما تبدأ من فكرة عابرة، من كلمة في مقهى شعبي، أو حتى من
حلم عابر في قلب شاعر.
0 التعليقات:
إرسال تعليق