تُواجه الجزائر لحظة دقيقة في سياستها الخارجية، تفرض عليها مراجعة خطابها ومقارباتها، خاصة بعد أن ازداد الزخم الأمريكي دعماً للمقترح المغربي للحكم الذاتي في الصحراء. ففي الوقت الذي تصاعد فيه هجومها على مدريد وباريس، بسبب تأييدهما الواضح للسيادة المغربية، اختارت الجزائر أن تخفف لهجتها بشكل لافت تجاه الولايات المتحدة، وباتت تتبنى موقفاً أقرب إلى البرود الدبلوماسي منه إلى المواجهة المباشرة.
منذ إعلان إدارة ترامب اعترافها بسيادة المغرب على صحرائه، وواشنطن تُكرّس موقفها
السياسي باعتبار مقترح الحكم الذاتي المغربي الخيار الوحيد الجدي والواقعي لتسوية النزاع.
إن تصريحات وزير الخارجية ماركو روبيو ومستشار الأمن القومي مايك والتز في لقاءهما
مع ناصر بوريطة، وزير الخارجية المغربي، لم تكن مجرد تأكيد لموقف قديم، بل جاءت كتوطيد
لتحالف استراتيجي يتجاوز المواقف الظرفية، ويُعبّر عن اصطفاف ودعم استراتيجي قوي على
المدى البعيد.
لكن ما يُثير الانتباه في هذا السياق هو أن الجزائر، التي لطالما لجأت إلى أساليب
تصعيدية في تعاملها مع المواقف الأوروبية —من تعليق معاهدات إلى استدعاء سفراء كما
حدث مع إسبانيا— اختارت حيال الموقف الأمريكي التعبير عن "الأسف"، دون خطوات
تصعيدية، في موقف يتناقض مع أسلوبها التقليدي.
هذا التحول ليس عرضيًا، بل يُعبر عن وعي داخلي بأثمان العزلة الدولية، وبالمخاطر
الكامنة في الصدام مع قوة عظمى كالولايات المتحدة. وهو ما يفسر بأن سلوك الجزائر يُعكس
ازدواجية دبلوماسية تهدف لتفادي التصعيد مع واشنطن، رغم تمسكها بلغة هجومية إزاء العواصم
الأوروبية. ومن هذا المنظور، يبدو أن الجزائر تُراهن على نوع من "الهدنة التكتيكية"
التي تُخفف من حدة المواجهة دون أن تُغيّر جوهرياً من موقفها السياسي المعلن.
ولا يمكن فهم هذا الحذر إلا في سياق سعي النظام الجزائري، منذ سنوات، إلى بناء
جسور استراتيجية مع الولايات المتحدة. فقد عرضت الجزائر خلال ولاية ترامب تعاوناً أمنياً
واستخباراتياً، وصفقات في مجال الطاقة والمعادن، أملاً في التأثير على القرار الأمريكي
بخصوص النزاع الصحراوي. تصريح السفير الجزائري بواشنطن، صبري بوقادوم، في مارس الماضي
عن استعداد الجزائر للحوار مع الولايات المتحدة في ملفات الأمن البحري ومكافحة الإرهاب،
يدخل ضمن هذا الإطار التوددي.
لكن هذه المقاربة لم تُسفر عن النتائج المرجوة. فالرؤية الأمريكية ظلت متماسكة
وثابتة، ما جعل الجزائر أمام خيارين: إما التصعيد الذي قد يؤدي إلى خسارة أوسع في دوائر
القرار الدولي، أو القبول بتخفيض سقف المواجهة للحفاظ على قدر من العلاقة مع واشنطن،
حتى وإن جاء ذلك على حساب خطابها التقليدي الداعم للطرح الانفصالي.
إن لهجة الجزائر الجديدة تُعد سابقة في ملفات الصحراء، حيث لم يسبق لها أن أبدت
هذا القدر من الاعتدال. وهو يرى أن القلق من تداعيات القطيعة مع واشنطن يُشكل دافعاً
حاسماً لتلطيف الخطاب وتفادي انكشاف أكبر أمام الرأي العام المحلي والدولي.
التوقيت كذلك ليس عابراً. فالدعم الأمريكي المتجدد للرباط جاء قبل أيام فقط
من جلسة مهمة لمجلس الأمن، في لحظة تشهد فيها الجزائر حالة من التراجع الدبلوماسي وتضاؤل
التحالفات الإقليمية. كما تواجه انتقادات متزايدة بسبب موقفها المتصلب حيال تحولات
المشهد الجيوسياسي في منطقة الساحل وشمال أفريقيا.
ورغم أن هذا الانضباط في التعامل مع واشنطن قد يُفسَّر في بعض الأوساط على أنه
محاولة جزائرية لإعادة التموقع، إلا أنه يكشف في الوقت نفسه عن تراجع فعلي في قدرة
الجزائر على فرض رؤيتها داخل المؤسسات الدولية. في ظل صعود الدبلوماسية المغربية وتحول
عدد من العواصم المؤثرة نحو دعم الحل السياسي الواقعي الذي تقترحه الرباط.
وهكذا، وبينما تستمر الجزائر في تأييدها المعلن لجبهة البوليساريو، فإن مواقفها
تجاه اللاعبين الكبار بدأت تعرف نوعاً من الانحناء السياسي، يُعبّر عن مأزق دبلوماسي
أعمق مما يبدو. إذ لم تعد العبارات الحماسية كافية لحشد الدعم، ولم تعد رهانات الحرب
الباردة قائمة لتُستثمر في مقايضات آنية.
ما يبدو للعيان هو أن الجزائر وجدت نفسها، طوعاً أو كرهاً، مضطرة إلى تعديل
بوصلتها التكتيكية، في زمن تتغير فيه الاصطفافات، وتُعيد فيه القوى الكبرى رسم أولوياتها
في ضوء ما يخدم مصالحها الاستراتيجية. أما المغرب، فبات يستثمر في هذه التحولات بذكاء
واضح، يدفع خصومه نحو الدفاع بدل الهجوم، ويُثبت مرة أخرى أن الواقعية السياسية ليست
فقط حلاً، بل أداة تفوّق.
0 التعليقات:
إرسال تعليق