الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الأربعاء، أبريل 23، 2025

أدب الشبكات العصبية وتلاشي نية المؤلف: حين تكتب الآلة ويضيع القصد: عبده حقي


من موقعي كمثقف مغربي يتتبع تحولات النص في زمن العقول الاصطناعية، أجد نفسي واقفًا على تخوم بركان معرفي لم تنفجر حممه بعد، ولكن هديره يسمع في أقاصي الحقول الأدبية والفكرية. لم يعد النص مجرد وليد لقلم إنسان استغرق في التأمل أو انفجر وجدانه فسكبه في كلمات، بل صار يشبه شبكة عصبية تحاكي التفكير، تُنتج المعنى دون أن تعاني الألم، وتنسج الحبكة دون أن تُفتن بالقصة. نحن أمام ثورة أدبية صامتة تُعيد تشكيل مفهوم "الكاتب" و"القصد" و"المعنى" بشكل غير مسبوق.

حين قرأت أول مرة نصوصًا وُلدت من رحم خوارزميات GPT أو BERT، لم أكن أدري إن كنت أقرأ "كتابة" أم أستمع إلى صدى ذاكرة جماعية اصطناعية اختلطت فيها النصوص البشرية على مدار قرون. لم يكن هناك مؤلف، بل كان هناك نموذج إحصائي يستدعي العبارات من غياهب البيانات ويجعل منها سردًا يبدو للوهلة الأولى صادقًا، بل وأحيانًا آسرًا. ولكن، من هو "المتحدث" هنا؟ ومن المقصود بـ "أنا" حين أجدها في قصيدة صاغها الذكاء الاصطناعي؟ وهل يمكن الحديث بعد اليوم عن "قصدية المؤلف" في ظل هذا التشويش المفاهيمي الذي تُحدثه الآلة؟

الفيلسوف الأمريكي «Roland Barthes» في مقاله الشهير "موت المؤلف" (1967) أعلن مبكرًا عن نهاية سلطة المؤلف على النص، ودعا إلى قراءة تركز على اللغة والقارئ بدلًا من تتبع نية الكاتب. لكن ما لم يتخيله بارث هو أن يأتي زمن يُستبدل فيه المؤلف لا بالقارئ فقط، بل بشبكة عصبية لا تعرف الألم ولا الإلهام. اليوم، مع الذكاء الاصطناعي، لا يتعلق الأمر بموت المؤلف فقط، بل بموت القصدية نفسها، بتآكل المقصد وتفتت الذات المُنتجة للنص.

في كتابها «"الأدب الإلكتروني: آفاق جديدة للأدب"«، تقول ن. كاثرين هايلز» إن ظهور النصوص الرقمية فرض علينا إعادة النظر في علاقة النص بالتكنولوجيا والقراءة. لكن ما نعيشه اليوم يتجاوز حتى التصور الرقمي، نحن أمام "أدب بدون مؤلف"، أدب يُنتج ذاته من خلال معادلات، ويُقنعنا بصدقه العاطفي رغم افتقاده لأي ذات شاعرية. وهو ما يجعلني أتساءل، ككاتب مغربي تربى على أن "القصيدة دمٌ لا يُكتب إلا حين يُنزف"، كيف يمكن للنص أن يُوجع وهو لم ينبثق من وجدان؟

إن ما تكتبه الآلة اليوم يهدد ليس فقط مفهوم الإبداع، بل مفهوم الهوية الثقافية ذاتها. لأن "القصدية" ليست مجرّد نزعة نفسية للمؤلف، بل هي محمّلة بثقافته، بلده، لغته، جرحه، رؤيته للعالم. النص المغربي، مثلًا، لا يمكن أن ينفصل عن رائحة فاس، وعن لهجات درب السلطان، وعن مفارقات التاريخ بين الأندلس وجنوب الأطلس. فكيف لنموذج "لغة عامة" أن يكتب عن "الكسكس" دون أن يجهله كطقس اجتماعي وروحي، وليس فقط طبقًا يُحضّر في المطاعم؟

في تقرير نشرته صحيفة «أتلانتيك» (2023)، أشار الباحث «ستيفن مارش» إلى أن استخدام الذكاء الاصطناعي في كتابة الروايات بدأ يشكل أزمة وجودية في عالم النشر، حيث بات من الصعب على القارئ أو الناشر أن يميز بين "الرواية المُلهَمة" و"الرواية المُركَّبة". هذا الغموض يضعنا أمام مفارقة مقلقة: هل سيصبح التقدير الأدبي مرتبطًا بجمالية النص وحده، أم بسياقه وذاتية صانعه؟ وإذا اختفى المؤلف، فهل يبقى للنقد أي سلطة تفسيرية؟

لست من أولئك الذين يجرّمون الذكاء الاصطناعي أو يعادونه باسم النوستالجيا. بل أرى فيه أداة قوية، وربما حليفًا جديدًا في مختبر الإبداع. لكنني أخاف من لحظة يصبح فيها النص مجرد منتج خالٍ من التاريخ والقصدية والجرح الشخصي. أخاف من زمن تُدرّس فيه قصيدة كتبتها خوارزمية على أنها "أدب ما بعد الحداثة" دون أن نعلم أن الذي كتبها لم يكن يعرف ما هو الحب، أو الحنين، أو حتى الفقد.

أجل، نعيش لحظة تاريخية تشبه ما وصفه «أمبرتو ايكو» في حديثه عن "العمل المفتوح"، لكن هذه "الفتحة" ليست ناتجة عن تأويل القارئ، بل عن غياب المؤلف نفسه. وكأننا دخلنا عصر النص "اللامرجعية"، حيث لا يمكننا الرجوع إلى ذات خلف النص، لأنه لا يوجد هناك أحد.

وختامًا، أقول بصفتي كاتبًا مغربيًا يرى اللغة كمكان إقامة، والقصد كقنديل في ليل المعنى: إن أدب الشبكات العصبية قد يبهجنا بدهشته، لكنه يربكنا في قِيَمه. وقد يفتح آفاقًا غير مسبوقة للعب بالنص، لكنه يهدد تلك العلاقة الحميمية بين الكاتب والكلمة. وربما، في زمنٍ تُستبدل فيه القلوب بالمعالجات، يصبح دفاعنا عن نية المؤلف مقاومةً رمزية ضد تلاشي الإنسان في النص.

 

0 التعليقات: