الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الثلاثاء، أبريل 15، 2025

حين تفرض البلوكتشين قواعد المصداقية الجديدة : ترجمة عبده حقي


لم أعد أتعامل مع الأخبار كما كنت أفعل سابقاً. في زمن التضليل المقنّع والحقائق المهندسة، أصبحت الكلمة المكتوبة محاطة بالريبة، كأن كل عنوان رئيسي يخفي وراءه مرآةً مكسورة تعكس وجوهاً متعددة للحقيقة. لكن ما أعاد إشعال شغفي كمستهلك ومحلل للخبر هو مفهوم بدا لي في البداية معقداً ومجالاً تقنياً صرفاً إنه : البلوكتشين.

في البداية، لم أتخيل أن التكنولوجيا وُلدت في أحشاء العملات الرقمية، يمكن أن تجد لها موطئ قدم في ميدان الإعلام، هذا الحقل المشبع بالانفعالات والآراء والانحيازات. ومع ذلك، حين بدأت أقرأ عن تطبيقات البلوكتشين في الإعلام، شعرت وكأنني أطل على نافذة جديدة، تُطلّ على مستقبلٍ قد يكون أكثر نزاهة وشفافية. فهذه التكنولوجيا، التي تقوم على دفتر أستاذ رقمي لا مركزي وغير قابل للتلاعب، تقدم بنية معلوماتية تحفظ كل تعديل وتاريخ نشر وتفاصيل مصدر المعلومة. الأمر شبيه بذاكرة لا تنسى، ولا تسمح لأحد بالتلاعب بسجلها.

حين قرأت مقالًا نشرته «MIT Technology Review» سنة 2018 بعنوان

 «"Can Blockchain Save Journalism?"«، بدأت أضع تصورًا أوليًا لعلاقة محتملة بين نزاهة الخبر وقوة السلسلة المشفّرة. كان المثال الأكثر بروزاً حينها مشروع "Civil"، الذي حاول إنشاء بيئة إعلامية تعتمد على البلوكتشين لضمان استقلال الصحفيين وتمويلهم من خلال رموز رقمية. ورغم تعثر هذا المشروع، فإن ما تركه من أفكار لا يزال يتردد حتى اليوم.

لكن التأثير الأعمق لتقنية البلوكتشين لا يكمن فقط في تمويل الإعلام المستقل، بل في إثبات مصدر الخبر. كم من مرة شاهدنا صورًا على وسائل التواصل الاجتماعي ترفق بعنوان مضلل، أو تصريحًا منسوبًا لشخصية سياسية لا أثر له في الواقع؟ هنا يبرز دور البلوكتشين في إنشاء "خريطة سلسلة المصدر": كل معلومة، كل صورة، كل فيديو، يمكن ربطها بسجل زمني لا يقبل الحذف، يثبت متى وأين وكيف نشرت لأول مرة.

في عام 2021، أطلقت وكالة «رويترز»، بالتعاون مع «IBM»، مبادرة لإثبات أصالة الأخبار بالاعتماد على تكنولوجيا البلوكتشين، تهدف إلى مكافحة التضليل. هذه المبادرة وضعت اللبنات الأولى لما يمكن أن نسميه "أرشيف الحقيقة"، حيث يُخزَّن المحتوى الصحفي مصحوباً ببياناته الميتا (metadata)، مما يمنع التزوير أو الاقتطاع المضلل.

 

وأنا كقارئ، لطالما تمنيت أن يكون لدي دليل مادي على أن ما أقرأه لم يُعبث به. وككاتب، حلمت بمنصة تحميني من حذف أو تشويه نصوصي الأصلية. البلوكتشين يَعِد بهذا لكلا الطرفين: حماية الحق في التلقي النزيه، وصون حرية التعبير عن طريق اللامركزية التي لا تسمح لأي جهة بالتحكم الأحادي في التدفق الإعلامي.

ومع ذلك، لا بد من الاعتراف بأن هذه التقنية ليست عصا سحرية. فما يزال هناك تحدي الولوج، وتحدي الاستخدام السهل، وتحدي التبني الواسع من قبل المؤسسات الصحفية الكبرى. كما أن هناك مخاطراً تتعلق بإمكانية توظيف هذه الشفافية ذاتها ضد الصحفيين في أنظمة قمعية، حيث قد تُستخدم البصمات الرقمية لتتبع مصادر تسريبات حساسة.

قرأت في كتاب «The Truth Machine» لمايكل كيسي وبول فيني أن البلوكتشين "يوفر الثقة حيثما غابت المؤسسات". وبالنظر إلى الواقع الإعلامي المعاصر، أجد أن الثقة غابت عن كثير من مؤسساتنا الصحفية، التي اختلطت عندها الأجندة التحريرية بالمصالح التجارية والسياسية. وهنا تكمن المفارقة الجميلة: أن تحل الخوارزميات محل الولاءات، وأن تصير الشفافية لا خياراً أخلاقياً، بل خاصية بنيوية.

لقد دخلنا زمناً تُقاس فيه قيمة الخبر ليس فقط بمحتواه، بل بأثره، وسرعة انتشاره، ومدى قابليته للتوثيق. وفي هذا السياق، يبدو لي أن البلوكتشين ليس فقط تقنية، بل فلسفة جديدة في التعامل مع الحقيقة. فلسفة تقول إن كل معلومة لها أصل، وكل أصل له زمن، وكل زمن له شاهد لا يُمحى.

ربما لا نكون بعد قد وصلنا إلى جنة الصحافة المثالية، لكن الطريق صار أقل ظلمة حين صارت كل خطوة فيه مسجلة، غير قابلة للتزوير، في سلسلة لا تنقطع من الحقائق المؤرخة. وفي عالم يُغرقنا يومياً بسيل من المعلومات، لا أملك إلا أن أتمسك بهذا الضوء الخافت المنبعث من قلب السلسلة… لعلّه يرشدنا نحو نسخة أكثر نزاهة من أنفسنا ومن العالم.

0 التعليقات: