ككاتب صحفي مغربي ينتمي إلى جيل عايش انتقال الإعلام من الحبر إلى الشاشة، ومن المطبعة إلى خوارزميات التوصية، وجدت نفسي في السنوات الأخيرة أتابع بدهشة التحول الجذري الذي أحدثته التصورات البيانية «Data Visualizations» في بنية الأخبار ومضامينها، ليس فقط بوصفها وسائل إيضاح، بل كأدوات تحليل وتأثير، ووسائط سردية تعيد تشكيل العلاقة بين القارئ والمعلومة.
عندما ننظر إلى الصحافة التقليدية، نكتشف أنها كانت تعتمد أساسًا على النصوص الطويلة، وعلى بعض الصور المصاحبة التي تؤطر الحدث ولا تحلله. أما اليوم، فقد أصبحت التصورات البيانية لغة قائمة بذاتها، قادرة على تلخيص معطيات معقدة، وتبسيطها، وربطها بسياقات متعددة. إنها لا تُستعمل فقط لتجميل المحتوى أو إثارة انتباه القارئ كما قد يتوهم البعض، بل تُستعمل في كشف الاتجاهات، واكتشاف الفجوات، بل وحتى فضح المغالطات.
أتذكّر وأنا أتابع
تغطية موقع «نيويورك
تايمز»
لتفشي جائحة كورونا،
كيف أن الرسومات البيانية كانت تنطق بما تعجز عنه الكلمات: منحنيات، أعمدة، دوائر،
خرائط تفاعلية… كلها كانت تبني أخبارا علمية دقيقة وتُسهم في تشكيل وعي جماعي بالكوارث
الصحية. وما أشبه تلك الرسوم، في تأثيرها، بأصابع تشير إلى ما يختبئ خلف الجدران، أو
عدسة تكشف التفاصيل التي لا تراها العين المجرّدة.
إن التصور البياني
اليوم لم يعد مجرد أداة بصرية، بل أصبح أحد أعمدة الصحافة التحليلية، إلى جانب التحقيقات
المعمّقة والبيانات المفتوحة. وكما يشير «Alberto Cairo» في كتابه الشهير «The Truthful Art: Data, Charts, and
Maps for Communication»، فإن استخدام الرسومات البيانية ليس فناً زخرفياً، بل مسؤولية أخلاقية
تتطلب دقة علمية وصرامة معرفية، لأن أي انحراف في تمثيل البيانات قد يؤدي إلى تضليل
الجمهور لا إلى تنويره.
في السياق المغربي،
ألاحظ أن هذا النمط الصحفي لا يزال في بداياته، رغم بعض المبادرات الواعدة التي ظهرت
في تغطيات «هيسبرس» أو «Le360»، حيث بدأت مواقع الأخبار في استخدام خرائط
تفاعلية لتتبع الانتخابات، أو رسومات توضيحية لتبيين نسب البطالة أو توزيع الدعم الاجتماعي.
إلا أن غياب ثقافة تحليل البيانات، وضعف تكوين الصحفيين في مجال الإحصاء والتصميم البصري،
يجعل معظم هذه المحاولات تفتقر إلى العمق والدقة، فتتحول أحيانًا إلى أدوات زخرفية
أكثر منها تحليلية.
لكن، ما الذي يجعل
التصور البياني قوياً وذا تأثير؟ الجواب يكمن في القدرة على تحويل البيانات الخام إلى
سرد بصري مفهوم. في عالم يتلقى فيه الفرد اليوم كماً هائلاً من المعلومات، باتت الأنماط
البصرية وسيلة لتجاوز الإرهاق المعلوماتي «Information Fatigue». فالدماغ البشري يعالج الصورة أسرع من النص، والتصميم
الذكي للبيانات يجعل المعلومة أكثر قابلية للفهم والتذكّر.
في هذا الصدد، تشير
دراسة صادرة عن «Harvard
Business Review» إلى أن
المقالات الإخبارية التي تتضمن تصوراً بيانياً متفاعلاً تحقق تفاعلاً أعلى بنسبة تصل
إلى 70٪ مقارنة بنظيراتها التقليدية. كما أن القراء يثقون أكثر بالمعلومات التي يتم
تقديمها عبر رسوم مدعومة بمصادر موثوقة.
وإذا كان الصحفي مطالبًا
اليوم بإتقان أدوات البحث والتدقيق، فإنه مدعو أكثر من أي وقت مضى إلى امتلاك حد أدنى
من الكفاءة في قراءة البيانات وتمثيلها، بل وأحيانًا التعاون مع محللي البيانات ومصممي
المعلومات. لقد تحوّلت غرف التحرير إلى ورشات متعددة التخصصات، حيث تتقاطع مهارات البرمجة
والتصميم والإحصاء مع فنون السرد الصحفي.
ولأنني أؤمن بدور الصحافة
في تعزيز الديمقراطية والمساءلة، فإنني أرى في التصور البياني وسيلة مقاومة ضد التعتيم
والمغالطة. فهو لا ينقل فقط ما حدث، بل يكشف لماذا وكيف حدث، ويطرح الأسئلة المناسبة
بلغة بصرية تفتح شهية العقل لا مجرد فضول العين.
يبقى السؤال: كيف يمكن
للصحافة المغربية أن ترتقي بهذه الأداة إلى مصاف القوى الفاعلة في صناعة الرأي العام؟
الجواب يبدأ من الجامعات، من إعادة هيكلة التكوين الصحفي ليدمج مبادئ صحافة البيانات
والتصور البصري، ومن فتح المجال أمام مشاريع إعلامية ناشئة تتقاطع فيها الصحافة مع
علوم البيانات والتصميم الجرافيكي.
ختاماً، لست أبالغ
حين أقول إن الصحافة التي لا تُحسن استخدام التصور البياني، كمن يكتب على الماء أو
يهمس وسط العاصفة. ففي عصر تتلاطم فيه الأمواج الرقمية، لا يكفي أن نقول الحقيقة، بل
علينا أن نُظهرها بوضوح، ودقة، وجمال.
0 التعليقات:
إرسال تعليق