الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الخميس، أبريل 24، 2025

وهم الذكاء المطلق: قراءة في كتاب جان-غابرييل غاناسيا: عبده حقي


منذ أن قرأت كتاب "Le Mythe de la Singularité" لأول مرة، شعرت وكأنني أمام طيف جديد من الأسئلة القديمة، أسئلة عن الإنسان، والتاريخ، والمستقبل الذي يبدو أحيانًا وكأنه مرسوم مسبقًا على شاشات الذكاء الاصطناعي. وبصفتي كاتبًا مغربيًا يتابع عن كثب التحولات الرقمية التي تهزّ العالم من جذوره، وجدت في هذا الكتاب ما يشبه مرآة عاكسة، لا لأحلامنا فحسب، بل لأوهامنا أيضًا.

جان-غابرييل غاناسيا، عالم الحاسوب والفيلسوف، يشرّح في كتابه هذا خطاب "التفرد التكنولوجي" – أي اللحظة التي يتفوق فيها الذكاء الاصطناعي على الذكاء البشري بشكل لا رجعة فيه. لكنه لا يكتفي بوصف هذا الخطاب بل يعرّيه، يفضح بنيته الخطابية، ويبين كيف أنه أقرب إلى الأسطورة الحديثة منه إلى واقع علمي مدروس.

من الصفحة الأولى، تلمس نَفَسًا نقديًا متزنًا، يخلو من السخرية ولا يغرق في السذاجة. يقدم غاناسيا مفهوم "الأسطورة" بوصفه بنية فكرية تُعبّر عن قلق حضاري لا عن حقيقة علمية. وكأننا حين نتحدث عن "التفرد"، لسنا إلا نتفاوض مع مخاوفنا الوجودية، ونُسقِط على الآلة رغباتنا العميقة بالخلود، بالانفلات من قيود الجسد، والتاريخ، وحتى الموت.

ما أثار إعجابي في الكتاب هو ربط المؤلف بين هذه الأسطورة الجديدة وبين الأساطير الدينية القديمة. حين نتحدث عن ذكاء يفوق الإنسان، فنحن نعيد إنتاج فكرة الإله، ولكن في نسخة علمانية مفرطة. وقد رأيتُ في هذا التحليل توازيًا مذهلًا مع كتابات المغربي محمد عابد الجابري حينما كان يحلل البنية العقلية العربية من خلال التراث، وكأن غاناسيا يفعل الأمر ذاته ولكن من بوابة الغرب الرقمي.

غاناسيا لا يرفض الذكاء الاصطناعي، بل يدافع عنه، ولكن من موقع نقدي. فهو يعترف بقدرة الآلات على التعلم، على المحاكاة، على التفوق في مهام محددة – لكنه يذكّرنا بأن هذه القدرات لا تُعادل الوعي، ولا تعني أننا اقتربنا من "تفرد" شامل. بل هو يعتبر أن هذا الاعتقاد ينتمي إلى ما يسميه بـ"الأسطورة الحديثة"، التي يتبناها أتباع تيارات مثل transhumanism  "مابعد الإنسانية" وsingularitarianism"التفرد" ، أمثال راي كورزويل.

ولعل أكثر ما جعلني أفكر بعمق وأنا أتنقل بين فصول الكتاب، هو أن غاناسيا يُحرّك فينا الشعور بالمسؤولية الأخلاقية. فحين نؤمن بقدوم الذكاء الإلهي، فإننا نميل إلى التنازل عن دورنا كفاعلين تاريخيين. وهذا ما يهدد الديمقراطية، الثقافة، والتعليم، وحتى الفعل الإنساني في جوهره. إنها استقالة رمزية من صناعة المستقبل.

أتذكر وأنا أقرأ الكتاب، كيف أن جزءًا من النقاش حول الذكاء الاصطناعي في المغرب والعالم العربي لا يزال رهينًا إما بالاحتفاء المفرط أو بالرفض الغيبي. وقد شعرت أن صوتًا مثل صوت غاناسيا ضروري عندنا أكثر منه في باريس أو برلين. فنحن بحاجة إلى التفكير في التقنية لا كتهديد ولا كمعجزة، بل كمسار إنساني يجب أن نتعامل معه نقديًا وبمسؤولية ثقافية وتاريخية.

في أحد الفصول، يورد الكاتب جملة من المقارنات بين العقل الإنساني ونظم الذكاء الاصطناعي، ويؤكد أن الفرق الجوهري ليس في القدرة على الحوسبة، بل في القدرة على التأويل، على إنتاج المعنى، على التأمل في الوجود. لقد شعرتُ أنني أقرأ في تلك الفقرة صدى للفلسفة الإسلامية في لحظة ازدهارها، حينما كان "العقل" يعني أكثر من مجرد آلة استدلالية.

ولعل من أهم ما شدني في هذه القراءة، هو موقف غاناسيا من "التهويل التكنولوجي" الذي تروّجه بعض شركات وادي السيليكون. إنه يدعونا إلى إعادة ضبط علاقتنا بالتقنية، لا من باب التهوين، ولكن من باب التفكيك. علينا أن نُميّز بين الخيال العلمي وبين التقدم العلمي، بين الأمل وبين الأيديولوجيا.

خرجتُ من هذا الكتاب وأنا أكثر يقينًا بأن معركتنا في المغرب ليست مع الذكاء الاصطناعي ذاته، بل مع غيابه عن النقاش العمومي، وعن المناهج التعليمية، وعن السياسات الثقافية. نحن لا نخشى "التفرد" كما يُرَوّج له، بل نخشى أن لا يكون لنا فيه رأي أو موقع.

*"Le Mythe de la Singularité"* ليس مجرد كتاب فلسفي أو تقني، بل هو مرآة فكرية نحتاج إليها بشدة، نحن الذين نحاول أن نفهم مستقبلًا يتشكل من خوارزميات تتكاثر بسرعة، ومن رؤى تتجاوز حدود الخيال. إنه دعوة إلى أن لا نترك للآلة وحدها حق الحلم، بل أن نحلم معها، ولكن بأعين مفتوحة.

0 التعليقات: