الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الأربعاء، أبريل 23، 2025

مكناس: أرجوحةٌ في رئة الزمن:عبده حقي

 


كنتُ أمشي في الحلم، وكلما رفعتُ قدمي، تحوّلت الأرض تحتها إلى بلاط مبلّل بندى السبعينات. لا أدري إن كنت أعبر الأزقة أم أن الأزقة هي من كانت تعبرني، تخترقني مثل أنفاس جدّتي وهي تقرأ تعاويذ الصباح قرب نافذة لا تطل إلا على صمت السنين.

مكناس… مسقط الرأس، مسقط الذاكرة، المدينة التي لم تخرج مني حتى حين أخرجتني منها. لا أذكر أول بكائي فيها، لكنه لا يزال يتردّد كلّما مررت بجانب "باب المنصور"، ذلك المعبد الحجري الذي تعلّمتُ فيه كيف تتهجّى الجلال، وكيف يمكن للأقواس أن تكون أشدّ بيانًا من القصائد. في السبعينات، كانت المدينة تشبه طفلاً يحلم أن يصير قصبة، وكانت الشمس تنزل على جبينها كل مساء كما تنزل البركة في فم دعاء قديم.
في زوايا المدينة القديمة، في الملاح، وفي أزقة "المدينة الجديدة" حيث كانت حافلات الخردة تصدر زفيرها مثل رجال طاعنين في العمر، كنت أكتشف تفاصيل هويتي قبل أن أتعلم كيف أكتب اسمي. كانت الروائح مرشدتي؛ رائحة الخبز البلدي في "السويقة"، رائحة الجلد في سوق "الصفارين"، ورائحة الحناء المخلوطة بشيءٍ من السرّ في "حمام الزهر".
كل شيء في مكناس كان يحتفظ بي كما تحتفظ الجدران القديمة بأحاديث العابرين. لم تكن المدينة تحتاج إلى خرائط، بل كانت تقرأك كما تقرأ الأمّ تقاسيم وجه رضيعها. حتى صدى الخطى في شارع الجيش الملكي كان يعرفني، ويغيّر إيقاعه حسب حزني أو فرحي. كنتُ أنا والمدينة توأمين من ماء، لا نفترق إلا كي نشتاق، ولا نشتاق إلا كي نعود.
لكنني غبت… نعم، غبت طويلاً.
غبت عن مكناس حتى كدت أنسى ملمس الحصى تحت النعال القديمة، حتى صار اسمها يُقال في المجالس كما تُقال أسماء الحبيبات اللواتي خُنّ الوفاء لا عن غدر، بل عن قهر. حين عدت، لم أعد كما كنت، ولا كانت المدينة كما كانت. الأرصفة التي ربّتني على الحكمة اختفت تحت الإسفلت، ومآذن المساجد اختبأت خلف كتل الإسمنت، وكل شيء صار يهمس بدل أن يغني.
كنت غريبًا في المدينة التي علّمتني ألفباء الإنتماء. وكأنّي أعود إلى رحمٍ رفضني لفرط ما تغيّر شكلي. حتى وجوه الأطفال التي كنت أرسمها على جدران خيالي صارت من طين آخر، لغة أخرى، زمن آخر. شعرت أن مكناس الحقيقية قد تمّت مصادرتها، وأُغلقت في صندوق قديم لا يفتحه سوى من بقي من الحالمين.
ومع ذلك… أنا أعشقها.
أعشقها حتى حين تنكرني. أعشقها كما يعشق الفيلسوف لغزًا لا يملك له جوابًا. أعشقها لأنني كلّما بحثت عني في مدن أخرى، كنت أجد ظلي جالسًا في ساحة الهديم ينتظرني، يتأمل أسراب الحمام كأنها رسائل من الزمن الجميل، يحمل في جيبه قطعة من زليج قديم ويهمس لي: *عدْ يا من لم ترحل أبدًا*.
حين ضاق بي الحنين، وجدت العزاء في توأمها… فاس. هناك، حيث يتشابه الهواء، وحيث تلتقي الأرواح في الزوايا، كأنّ المدينتين شقيقتان افترقتا في اللغة والتقتا في المعنى. فاس تشبه مكناس حين تغتسل بالحكمة، ومكناس تشبه فاس حين تتزين بالعزلة. بين المدينتين، يتدلّى جسدي كحرفٍ معلق في قصيدة لم تكتمل.
في فاس، وجدتُ قطعًا من مكناس القديمة: بائع "سندويتش" قرب "باب بوجلود" يذكرني ببائع الكسكس في "البرج مولاي إسماعيل"، وامرأة تبيع النعناع تذكرني بعمّتي التي كانت تخلطه بالدعاء، وطفل يرسم بالألوان على جدار مدرسة، يشبهني حين كنتُ أبحث عن حكاياتي على أسطح الطباشير.
بين المدينتين، أتنقّل كأنّي أستكمل نفسي. هناك حيث يُعزف الأذان كما لو كان ترتيلاً صوفيًّا، وهناك حيث تهمس الزوايا بأسرار الله، وهناك حيث تكتب الأبواب على نفسها مذكرات الحجر. هناك، فقط، أشعر أنني ما زلت أنتمي، أنني لم أُنسَ، أن مكناس، رغم ما صار، ما زالت تحبّني.
أنا العائد من الغياب، أبحث عن قصائدي الضائعة في أرصفة الطفولة، عن ظلّي الذي كبر قبلي، عن مدينةٍ هجرتها الذاكرة ولم يهجرها القلب. أنا ابن مكناس، حتى حين تتنكّر لي شوارعها، وتنسى وجهي دروبها. ابنها، لأنني كلّما انطفأت شموع الحنين في قلبي، كانت تشعلها لي من نافذةٍ صغيرة تطل على الماضي… وتبتسم.

0 التعليقات: