منذ أن فتحتُ أول حساب لي على وسائل التواصل الاجتماعي، كنت أظن أنني دخلت فضاءً بلا جدران، بلا سقف ولا حراس، فضاءً يعجُّ بالحريّة ويحتفل بالاختلاف كما تحتفل القصائد بالجُموح. لكن سرعان ما اكتشفت أن هذا "العالم الحر" يمكن أن يتحوّل، في ومضة غضب جماعي، إلى محكمة افتراضية تُصدر أحكامها بلا محامين، ولا استئناف، ولا حقّ في الصمت. عالم تتداخل فيه الحداثة الرقمية مع ملامح محاكم التفتيش القديمة.
في البداية، خُيّل
إليّ أن ما يُعرف بـ"ثقافة الإقصاء" (Cancel Culture) مجرّد موجة عابرة، تندرج في سياق "اليقظة
الأخلاقية" التي تنتجها المجتمعات الغربية خاصة، كنوع من التمرد على العنصرية،
التمييز، أو إساءات السلطة. لكن كلما تمعّنتُ في الظاهرة، أدركت أنها سيف ذو حدّين؛
إنها ترفع راية العدالة ولكنها، في كثير من الأحيان، تستبدلها بشعارات التشهير والانتقام.
لقد لاحظت كيف تحوّلت
شبكات التواصل، كما وصفها إليك بارايزر في كتابه «The Filter Bubble»، إلى فقاعات من الصوت الواحد، حيث يُلغى
المختلف ويُقصى الهامشي، لا بحجج عقلانية، بل بتغريدات مندفعة ومقاطع فيديو مجتزأة.
إن منصات فيسبوك، تويتر، إنستغرام... صارت بمثابة ساحات للجلد الرمزي، حيث يتعرض الشخص
للنبذ لا لأنه أجرم فعلاً، بل لأنه خالف "تيار الصواب اللحظي"، والذي قد
يتبدّل كل ساعة.
اللافت في هذا المشهد
هو أن المروجين لثقافة الإقصاء يدّعون الدفاع عن القيم التقدمية: مناهضة التمييز، حقوق
الأقليات، العدالة البيئية والاجتماعية... ولكن أليست هذه القيم نفسها بحاجة إلى فضاء
للنقاش والنقد؟ كيف يمكن أن نحميها إذا كانت كل محاولة لإعادة النظر فيها تُقابل بصراخ
"الإقصاء" و"التشهير"؟ لقد كتب الفيلسوف سلافوي جيجيك في أحد مقالاته:
"لا حرية لمن لا يستطيع أن يقول ما لا يُراد سماعه." وهذه الجملة تحاصرني
كلما شاهدت اسماً يُلغى لمجرد تغريدة قديمة، أو موقف تم إخراجه من سياقه.
إن تجربتي كمثقف مغربي
في هذا السياق تحمل خصوصيات أخرى. فهنا، حيث يتقاطع السياسي مع الثقافي، وتخترق الهويات
الرقمية جسد الواقع، تُستورد ثقافة الإقصاء من الغرب كما تُستورد الماركات الفاخرة:
بلا نقد، بلا تأقلم مع السياق المحلي. إنني أرى شباباً مغاربة يلجأون إلى "الفضح
الرقمي" لمعارك شخصية، أو لتصفية حسابات أيديولوجية، أو حتى للبحث عن "ترند"
لحساباتهم. وبهذا، تتحوّل معارك التحرّر إلى فصول من التصفيات الرمزية.
أتذكّر ما كتبه عبد
الله العروي في «الإيديولوجيا العربية المعاصرة» حينما تحدث عن مأزق "الوعي التبريري"،
الذي يسعى إلى تقديم الذات كضحية دائمة، لا لتفكيك المنظومة، بل للحصول على امتيازات
رمزية. اليوم، نشهد نسخة رقمية من هذا المنطق: كلما ألغيتَ الآخر، ارتفعت أسهمك في
بورصة التعاطف واللايكات.
لكن، أليس من واجبنا
أيضاً الاعتراف بأن ثقافة الإقصاء، رغم تجاوزاتها، كشفت لنا هشاشة بعض الأصنام؟ لقد
فتحت الباب لكشف الاعتداءات الجنسية التي كانت تُمارس في الظل، كما هو الحال في حركة
#MeToo، وفضحت عنصرية مبطنة في عدد من المؤسسات، كما
فعلت الموجات المناهضة لعنف الشرطة في أمريكا. بيد أن الخطر يكمن في تعميم العقاب،
وفي استبدال المحاسبة القانونية بالإعدام الرمزي.
أنا لا أدافع عن حرية
التعبير بلا حدود، ولا أروّج للتسامح مع الخُطابات المسمومة، بل أطالب – كإنسان مغربي
يعيش في مفترق بين العولمة والخصوصية – بنقاش عقلاني، لا يتحوّل فيه الخطأ إلى لعنة
أبدية. لقد أصبحتُ أخاف على الكلمة، على الكتابة، على الحقّ في أن أعبّر عمّا أراه،
حتى ولو خالف "المزاج العام الرقمي". أليس من المفارقة أن التكنولوجيا التي
وُعدنا بأنها ستوسع آفاق الحريّة، صارت في بعض الأحيان تُضيّقها أكثر من أي نظام رقابة؟
إن ثقافة الإقصاء قد
تبدأ بنوايا حسنة، لكنها سرعان ما تسقط في فخ المزايدة الأخلاقية، تماماً كما يسقط
المُنقذ في حبّ صورته البطولية. وفي زمن الصور والهاشتاغات، يصبح الأثر الرمزي أهم
من الحقيقة نفسها. كما قال جان بودريار: "إننا لم نعد نعيش في الحقيقة، بل في
محاكاة الحقيقة."
وحده العقل النقدي،
لا العواطف المتأججة، قادر على التمييز بين محاسبة عادلة وإلغاء تعسّفي. وحدها الثقافة
القائمة على الحوار يمكن أن تحمينا من الانزلاق نحو مجتمعات تُلغي الإنسان قبل أن تحاكمه.
ولعل أول ما علينا
فعله نحن – ككتّاب ومفكرين ومواطنين مغاربة – هو إعادة الاعتبار للفكر البطيء
والرصين ، في مواجهة هذا الإيقاع المحموم الذي لا يرحم أحداً. علينا أن نعيد تعريف
ما تعنيه الحرية، وأن نسأل أنفسنا، بلا خوف ولا ضجيج: من يحق له أن يقصي الآخر؟ ومن
يُلغي المُلغين؟
0 التعليقات:
إرسال تعليق