حين كنت أتأمل التحولات العميقة التي شهدها مجال الصحافة البيئية خلال العقدين الأخيرين، أدركت أن العالم لم يعد يُرى بالعين المجردة وحدها، بل أصبح يُستكشف من الأعلى، من خلال عدسة ذكية تحلق فوق الأرض: الطائرات المسيّرة أو الدرونز. وأنا ابن المغرب، الذي يزخر بتنوع بيئي يمتد من قمم توبقال المغطاة بالثلوج إلى واحات زاكورة المترامية في قلب الصحراء، شعرت بأن استخدام الدرونز في الصحافة البيئية ليس مجرد تكنولوجيا طارئة، بل ضرورة فرضها الواقع المتغير لكوكب يئنّ تحت وطأة التغير المناخي والجشع البشري.
لقد مثّلت الطائرات
المسيّرة، كما أشار الباحث "ستيفن ستوك" في مقالته بمجلة «Columbia Journalism Review» سنة 2021، "ثورة حقيقية في كيفية رواية
القصص البيئية"، لأنها وفرت زاوية رؤية شاملة تُمكّن الصحفي من سرد تفاصيل الانتهاكات
البيئية بطريقة أكثر تأثيرًا ودقة. بالفعل، لم تعد التقارير عن اجتثاث الغابات أو تلوث
السواحل مجرد شهادات مكتوبة أو صور أرضية تقليدية، بل تحولت إلى لقطات جوية مذهلة،
تجبر القارئ والمشاهد على مواجهة الحقيقة دون مواربة.
أتذكر يوم غطى أحد
الصحفيين الأجانب، تدهور الأراضي الرطبة في محمية سيدي بوغابة شمال القنيطرة. لولا
الدرون الذي كنا نحمله معنا، لما استطعنا أن نلتقط الصورة الكاملة لحجم الكارثة البيئية.
من الأعلى، ظهرت البقع الجافة كجراح مفتوحة على جسد الأرض، وتبدّت لنا العلاقة الوطيدة
بين التوسع العمراني الفوضوي وانقراض العديد من الطيور المهاجرة، وهو ما أكده تقرير «اتفاقية
رامسار بشأن الأراضي الرطبة» لعام
2023.
لكن، وكما أن كل أداة
تحمل وعودها ومخاطرها، فإن استخدام الدرونز في الصحافة البيئية لا يخلو من تحديات أخلاقية
وقانونية. فبحسب كتاب "Drones and Journalism" لمارك تريمبلاي (2020)، تُطرح أسئلة حارقة
عن الحق في التصوير فوق الأراضي الخاصة، وعن حماية خصوصية الأفراد والمجتمعات، خصوصًا
عندما يتعلق الأمر بتوثيق انتهاكات ترتكبها شركات كبرى أو حتى مؤسسات حكومية. في بلد
كالمغرب، حيث تتداخل أحيانًا حدود حرية الصحافة مع ضرورات الأمن الوطني، يتعيّن على
الصحفي أن يتحلّى بذكاء قانوني وأخلاقي كبير وهو يستخدم هذه التكنولوجيا.
ما يدهشني أكثر في
عالم الدرونز هو الإمكانية الفريدة التي تتيحها لرواية الأخبار بيئية بطريقة تفاعلية
وشاعرية في آن واحد. فكما كتب "بول سوزمان" في تقرير نشره موقع «National Geographic» سنة 2022، "تصوير البيئة من السماء لا ينقل
المعلومة فحسب، بل يحفز الإحساس بالجمال المهدد". وهكذا، صارت التقارير البيئية
ليست مجرد وثائق اتهام ضد الفاعلين السلبيين، بل صارت أيضًا قصائد بصرية تشحن الوعي
العام بجمال الأرض وضرورة حمايتها.
في المغرب تحديدًا،
بدأت مبادرات ناشئة تستثمر هذه الإمكانيات. في سنة 2024، أطلق بعض الصحفيين البيئيين
بالتعاون مع معاهد البحوث مشروع "عين السماء"، وهو مشروع يهدف إلى تتبع التغيرات
التي تعرفها الغابات والأراضي الزراعية عبر طائرات مسيّرة مزودة بتقنيات تحليل الصور
الحرارية. وقد أصبحت هذه المبادرة مثالًا على كيف يمكن للتكنولوجيا أن تعزز التحقيقات
الاستقصائية البيئية وتدعم القرارات السياسية المبنية على بيانات ميدانية دقيقة.
غير أنني أدرك أن الطريق
ما يزال طويلا. فكما أن الطائرات المسيّرة مكنت الصحافة من كسر الحدود التقليدية للرؤية،
فإنها في الوقت نفسه فتحت بابًا جديدًا أمام قوى مضادة قد تستخدم نفس الأدوات لأغراض
تزييف الحقائق أو التشويش على الروايات البيئية الأصيلة. ومع تسارع تطور الذكاء الاصطناعي
في تحليل وتعديل الصور الجوية، أضحى لزامًا علينا نحن الصحفيين أن نطوّر معايير صارمة
للتحقق من مصداقية المادة المصورة ومصدرها.
من بين اللحظات التي
حفرت في ذاكرتي وأنا أمارس هذا النوع من الصحافة، كانت تلك التي التقطت فيها طائرتنا
المسيّرة مشاهد لموقع ناءٍ في جبال الأطلس، حيث أدى الجفاف المتواصل إلى انقراض أحد
الأنهار الصغيرة. لم تكن تلك مجرد لقطة لخبر بيئي عابر، بل كانت شهادة حية على تراجع
دورة الحياة نفسها، وكأن الأرض، في تلك اللحظة الصامتة، كانت تكتب وصيتها الأخيرة عبر
عدسة آلة تحلق في صمت يشبه صلاة.
وهكذا، أجد نفسي اليوم،
معني بشؤون الأرض، مؤمنًا بأن الصحافة البيئية عبر استخدام الدرونز ليست ترفًا تقنيًا،
بل أداة خلاص معرفي وجمالي. أداة تقودنا، نحن سكان هذا الكوكب الجريح، إلى أن نرى من
الأعلى ما كنا نغض الطرف عنه ونحن على الأرض: هشاشتنا المشتركة.
لو أردت ذلك، أخبرني!
0 التعليقات:
إرسال تعليق