في مثل هذا اليوم من كل عام، ومع حلول 31 ماي، لا أستطيع أن أمر مرور الكرام على "اليوم العالمي للامتناع عن التدخين". إنه ليس مناسبة عابرة أُزَيَّن بها الخطابات الرسمية، بل هو وقفة شخصية أسترجع فيها الوجوه التي اختنق صوتها تحت سطوة الدخان، وأتأمل خلالها واقعًا مغربيًا غارقًا في دخان العادة، وفي صمت التطبيع مع الخطر.
أرقام وزارة الصحة تقول إن نسبة انتشار التدخين بين البالغين في المغرب تصل إلى 13.4%، لكنها تخفي وراءها ما هو أخطر: 26.9% من الرجال المغاربة يدخنون مقابل 0.4% فقط من النساء. وفي نظري، هذا التفاوت لا يعكس فقط الواقع، بل يُخفي تحت طياته أبعادًا ثقافية واجتماعية تجعل من التدخين سلوكًا ذكوريًا مقبولًا بل ومحمودًا أحيانًا، خاصة في أوساط الشباب.
أما في المدارس، فتشير التقديرات إلى أن 6% من التلاميذ بين سن 13 و15 سنة يدخنون، وهو رقم مفزع بالنسبة لي. أن ترى أطفالًا لا زالوا في طور النمو يُمسكون السيجارة كما يُمسك الكبار مقود السيارة، فذلك يُنبئ بكارثة صحية وتربوية على المدى الطويل. إنها بداية طريق محفوف بالمرض، وقد تكون بوابة لإدمانات أخرى أكثر فتكًا.
وإذا كانت الأرقام تعني شيئًا، فهي تشير أيضًا إلى أن 8% من إجمالي الوفيات في المغرب مرتبطة بالتدخين، وأن 75% من حالات الوفاة بسرطان الرئة، و10% من وفيات أمراض الجهاز التنفسي، سببها هذه العادة القاتلة. أما الجانب الاقتصادي، فقد وصل حد العبث: إنفاق يومي يصل إلى 22 درهمًا في المتوسط للفرد المدخن، أي ما يعادل 30% من الحد الأدنى للأجور. كيف لعائلة ذات دخل محدود أن تتحمل هذه الفاتورة القاتلة دون أن تنهار؟
ما يقلقني أيضًا هو توسّع ظاهرة التدخين الإلكتروني، التي تحاول التسلل إلى أوساط المراهقين على أنها "موضة آمنة"، في حين أن الأبحاث لا تزال تشير إلى أضرارها المحتملة على الجهاز التنفسي والعصبي. فهل ننتقل من نار السيجارة إلى بخار مجهول التركيب والمفعول؟
إنني أدرك أن الدولة لا تقف مكتوفة الأيدي. فقد أطلقت وزارة الصحة والحماية الاجتماعية برنامجًا وطنيًا لمحاربة التدخين يرتكز على أربعة محاور: التوعية، المرافقة الطبية، الدراسات الإحصائية، وتعزيز الترسانة القانونية. تم إنشاء نوادٍ مدرسية للتثقيف، وحملات "ثانويات بدون تدخين"، ومراكز تقدم خدمات الإقلاع عن التدخين. لكنها جهود، برأيي، لا تزال محدودة في الانتشار، وتعاني من غياب الاستمرارية والصرامة في التنفيذ.
من جهة أخرى، فإن المجتمع المدني يحاول التدخل، ويقوم بدور مهم في تنظيم الندوات والورشات، بل وحتى الضغط من أجل تقييد بيع السجائر بالقرب من المدارس. لكن السؤال الذي يلحّ عليّ دائمًا: لماذا لا تتحول هذه الجهود إلى استراتيجية وطنية شاملة، مدعومة بميزانيات ثابتة، وتحظى بالدعم الإعلامي والثقافي اللازم؟
لقد التقيت بأشخاص حاولوا الإقلاع عن التدخين. بعضهم نجح، وبعضهم استسلم بعد أيام. لم يكن ينقصهم الإرادة، بل كان ينقصهم من يفهم أن الإدمان ليس ضعفًا في الشخصية، بل حالة نفسية واجتماعية تحتاج إلى مرافقة حقيقية، إلى من يسمع لا من يعظ، إلى من يقدّم بدائل لا مجرد نصائح.
ربما نحن بحاجة إلى مراجعة شاملة: في السياسات، في الثقافة، في الإعلام، وفي التعليم. نحتاج إلى خطاب يربط بين التدخين والفشل لا النجاح، بين السجائر والمرض لا القوة، بين الإقلاع والبطولة لا الخنوع.
أحلم بمغرب خالٍ من الدخان، أحلم بمقاهٍ نظيفة، وبمدارس لا تُباع أمامها السجائر، وبأطفال يركضون في الهواء الطلق بدل أن يختنقوا في زوايا المدرسة بسحابة دخان. أحلم بإعلام يُظهر المدخن كضحية لا قدوة، ويُحوّل الإقلاع عن التدخين إلى قصة نجاح لا خجل.
31 ماي ليس مجرد رقم في رزنامة الصحة العالمية، بل هو بالنسبة لي نداء داخلي بأن نمنح لهذا الوطن شيئًا من الهواء النقي. أن نعيد للتنفس معناه، وأن نقول لأنفسنا بصدق: يكفي. لننقذ صحتنا، ومالنا، وأجيالنا المقبلة. فكل سيجارة لا تُشعل، هي بصيص أمل لمغرب أنظف، وأقوى، وأكثر إنصافًا للحياة.
0 التعليقات:
إرسال تعليق