الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


السبت، مايو 31، 2025

عشر سنوات من الصمت والقهر: عبده حقي


لم أكتب هذا المقال بصفتي مراقباً سياسياً من الخارج، بل كمواطن مغربي يتأمل بذهول ما يحدث في الجزائر، حيث تتحوّل الآمال الديمقراطية إلى كوابيس قضائية، وحيث يُساق المرشحون إلى المحاكم بدل صناديق الاقتراع. قضية المرشحة الرئاسية السابقة «سعيدة نغزة» التي صدر ضدها حكم قاس بالسجن عشر سنوات في مايو 2025، لم تكن مجرد فصل جديد في أزمة الحكم في الجزائر، بل صفعة صادمة لقيم العدالة والمواطنة والمشاركة السياسية الحرة.

حُكمٌ وصفه كثيرون بالـ"غير المعقول"، صدر في قضية سياسية الطابع لا يتضمن ملفها أي دليل مادي على فساد مالي، أو شراء ذمم، أو تلاعب انتخابي. مجرد ترشح لسيدة ذات نفوذ اقتصادي وخطاب ناقد، تحدّت السلطة القائمة ورفضت الاصطفاف وراء خيار "الولاية الثانية"، كما طُلب منها عبر قنوات غير رسمية. وكانت النتيجة أن وجدت نفسها وأبناءها وزملاءها في السجن، بينما خُتم على ملفات الاتهام بالفراغ والخواء.

سعيدة نغزة لم تُدان وحدها. فقد جُرّ أبناؤها الأربعة معها إلى ذات المصير، فابنها الأكبر في السجن، والابن بالتبني "آدم" كذلك، بينما حُكم على "مولود" بخمس سنوات نافذة، أما الرابع "مقران" فهو خارج البلاد لكنه مُلاحق بمذكرة توقيف دولية. إنه ليس مجرد اعتقال لشخص، بل "سجنٌ لعائلة كاملة"، كما قالت نغزة وهي تبكي في تسجيل مصوّر أثار ضجة واسعة على شبكات التواصل الاجتماعي.

في ذات التسجيل، الذي امتد لـ14 دقيقة مؤلمة، لم تكن فقط تصرخ باسم أبنائها، بل كانت تفتح أيضاً "الملف الحقيقي" كما سمّته: اتهام مباشر «للعقيد طارق»، المسؤول السابق عن كتيبة "عنتر" التابعة لجهاز الاستخبارات الداخلية (DGSI)، بأنه دبر كل شيء بداية من فتح الملف، مروراً بضغطه على القضاة، ووصولاً إلى تجميد ممتلكاتها وشل أنشطتها الاقتصادية.

لم تتردد نغزة في القول إن العقيد لم يكن سوى منفّذ لأوامر صدرت عن «ثلاثة من مستشاري الرئيس عبد المجيد تبون»، وتحديداً: كمال السيد سعيد، وأمير حمداش، وبلمين بلام. هؤلاء، بحسب روايتها، استخدموا نفوذهم لابتزازها سياسياً عام 2023، مطالبين إياها بالانسحاب من السباق الرئاسي ودعم ترشح تبون. وحين رفضت، بدأت الماكينة الأمنية والقضائية عملها، بدقة ملفقة لا يليق أن تُنسب إلى مؤسسة أمنية تدّعي محاربة الإرهاب والفساد.

فمنذ متى تتحرّك أجهزة الاستخبارات لتفكيك الحملات الانتخابية؟ منذ متى يُعتبر ترشح سياسي مشروع تهديداً أمنياً؟ ولماذا يُجرم السعي إلى الوصول للرئاسة، خاصة حين يتم ضمن المسارات الدستورية؟ لم يكن بوسع أي عقل حرّ أن يصدق أن "دولة المؤسسات" يمكن أن تهدم مرشحة، فقط لأنها "كتبت رسالة نقدية للرئيس"، أو لأنها أصرّت على أن تتكلم باسم نفسها، لا باسم النظام.

تكشف هذه القضية عن واقع مؤلم: أن "الدولة العميقة" لم تنتهِ في الجزائر، بل أعادت تشكيل نفسها بشكل أكثر شراسة. فقد تراجع دور العسكر الرسمي، بينما صعد دور المستشارين غير المنتخبين، أولئك الذين يتصرفون باسم الرئيس دون علمه أو بمباركته الصامتة، وهو أمر لا يقل خطورة.

إن تَغوّل هؤلاء المستشارين جعل من جهاز الاستخبارات، كما وصف أحد المعلقين، أداة طيّعة في يد نزاعات شخصية. وبدل أن يتفرغ لمحاربة الجريمة المنظمة، صار يُستخدم لسجن نساء، وتحطيم أحلام انتخابية، وتصفية الحسابات.

عند مراجعة تفاصيل الحكم، تبرز مفارقات صادمة: لا توجد أدلة على رشاوى، لا وجود لتسجيلات، ولا حسابات مالية مشبوهة، حتى الشهود الذين جُمعوا تحت التهديد، تراجعوا في الجلسات، وقالوا إنهم أدلوا باعترافات تحت الضغط. بل إن نفقات الحملة التي أدينت بسببها نغزة، لم تتجاوز بضع عشرات الآلاف من الدنانير، صُرفت على التنقل والطعام في لقاءات عادية.

فما الذي حدث إذن؟ الحقيقة المؤلمة هي أن ما جرى ليس تحقيقاً في قضية فساد، بل إغلاق باب أمام "إمكانية سياسية مزعجة"، امرأة حظيت بدعم أكثر من 900 منتخب محلي، وأظهرت أنها قادرة على تجميع قاعدة جماهيرية فعالة، وهو ما اعتُبر تهديداً "لبنية الحكم لا للنظام القانوني".

رغم كل ما تعرضت له، لم تُخفِ سعيدة نغزة نيتها في مواصلة المعركة من داخل السجن. بل إنها، في آخر جملة لها في الفيديو، طلبت من المواطنين، ومن رئيس الجمهورية شخصياً، التدخل لوقف المهزلة، قائلة: "إنني لم أطلب شيئاً سوى حقي كمواطنة جزائرية، والآن تُسحب مني حريتي، وتُدمر عائلتي، فقط لأنني فكرت بطريقة مختلفة."

قد تكون هذه بداية نهاية سياسية مريرة لامرأة تحدّت النظام، لكنها قد تكون أيضاً «شرارة جديدة لمساءلة أوسع حول من يحكم فعلياً في الجزائر، ولصالح من تُوجَّه أذرع الدولة».

في الجزائر الجديدة التي وُعد بها الناس بعد الحراك، لا يجب أن تُنتهك العدالة بهذا الشكل، ولا يجب أن يُكمم الصوت الحر فقط لأنه لا يصفق للرئيس. وآن للجزائريين، ولنا جميعاً، أن نسأل: من يملك الحقيقة؟ ومن يملك الشجاعة ليقولها؟

0 التعليقات: