منذ بداياتي في الكتابة، وأنا أؤمن أن الكلمات ليست مجرد أدوات تواصل، بل أرواحا صغيرة نُطلقها في الفضاء لتعيش بين الناس، تؤنس وحدتهم، وتوقظ فيهم أسئلتهم النائمة. لكن مع انفجار ثورة الذكاء الاصطناعي وتزايد قدرة الآلات على "الكتابة"، بدأت أشعر بشيء غريب، شبيه بذلك القلق الذي يتسلل إلى النفس عندما نشاهد دمية بشرية الملامح تتحرك بإتقان، دون أن تنجح في إخفاء برودتها المقلقة. إنه الشعور الذي يُعرف في علم النفس المعرفي بـ"الهاوية الغريبة" أو «The Uncanny Valley، والذي ينتقل اليوم من ساحات الروبوتات إلى عوالم الأدب الرقمي.
في السنوات الأخيرة،
أصبحت نصوص الذكاء الاصطناعي تزاحمنا على موائد السرد، تتقن الحبكة، وتنسج الجمل ببراعة،
وتنتج مقاطع شعرية تحاكي كبار الشعراء. وقد كنت شخصيًا منبهرًا – في البداية – بقدرتها
على توليد نصوص تبدو إنسانية في أشكالها. لكن شيئًا ما في هذه الكتابات جعلني أنكمش،
كأن النص حيٌّ لكنه بلا نبض، كأنني أمام شبح جمالي، يُقلّد الحياة دون أن يعيشها.
هنا، أستحضر مقالة
الباحثة شيري توركل في كتابها «Alone Together، حيث حذّرت من العلاقات الزائفة التي نُقيمها
مع الروبوتات التفاعلية، معتبرة أن الإحساس بالألفة فيها هو إحساس خادع، ناتج عن البرمجة
الذكية وليس عن مشاركة حقيقية للمشاعر. هذا بالضبط ما يحدث مع النصوص الأدبية المنتجة
بالذكاء الاصطناعي: هي مألوفة ظاهريًا، لكنها في جوهرها خالية من المعاناة، من الخسارات،
من الزمن الداخلي الذي يجعل النصوص حقيقية.
الأدب، في رأيي، ليس
مجرد تركيب لغوي أو بنية سردية. إنه نتاج تجربة وجودية معقدة، فيها الحنين، والخوف،
والحب، والانكسار، والتوق إلى المعنى. وحتى وإن تمكّن الذكاء الاصطناعي من تحليل ملايين
النصوص واستخراج أنماط البلاغة والأسلوب، فإنه لا يملك "الذاكرة العاطفية"
التي تشحن الكلمات بتيارها الإنساني. لا يمكنه أن يفهم ما يعنيه أن تكتب وأنت جائع،
أو مريض، أو عاشق، أو مطرود من وطنك.
في بعض التجارب التي
قرأتها، خصوصًا تلك المنشورة في المجلات الرقمية الغربية مثل «The Verge» أو«Wired، تم تجريب كتابة روايات قصيرة
بأكملها عبر أدوات مثل GPT-3 وGPT-4.
وفي كل مرة، كان النقّاد يلاحظون أن النصّ – وإن
بدا مشوقًا ومتماسكًا – يفتقر إلى الدهشة، إلى "القفزات الشعورية"، إلى تلك
الجمل المفاجئة التي لا تأتي إلا من عقل يهيم ويخطئ ويخاف.
لقد ناقش الفيلسوف
الفرنسي جان بودريار مسألة "النسخة" في عالم ما بعد الحداثة، مشيرًا إلى
أن النسخ المُتقنة لا تكرر الأصل بل تبتكر وهمًا جديدًا يبتلع الأصل نفسه. وهذا ما
نواجهه اليوم: نصوص ذكاء اصطناعي ليست مجرد "تقليد" للكتابة البشرية، بل
تشكّل نموذجًا موازيًا يعيد تعريف "الكتابة" بطريقة مخيفة. إنها لا تطمح
إلى التعبير عن الذات، بل إلى محاكاة الذوات، إلى إنتاج محتوى يُقاس بالكفاءة والسرعة
والتفاعل، لا بالأثر الوجودي.
إنني لا أنكر فائدة
هذه الأدوات في التعليم، أو في تسهيل مهام التحرير والترجمة. لكن حين يتعلق الأمر بالأدب،
فإننا نخطو على خيط رفيع بين "التقنية" و"الوجود". ففي كل رواية
عظيمة، ثمة شقوق وجروح وثقل روحي لا يمكن لأي آلة، مهما بلغت دقتها، أن تنسجها. وحده
الإنسان، بتعقيده، وبتناقضاته، وبحيرته، يستطيع أن يكتب الأدب الحقيقي، لا لأنه الأذكى،
بل لأنه الأضعف، والأشد حاجة للكلمات.
في نهاية المطاف، أعتقد
أن "الهاوية الغريبة" في الأدب الرقمي ليست في الشكل، بل في الجوهر. هي في
ذلك الفراغ الذي يُخلفه نص يشبهنا كثيرًا لكنه لا يلمسنا. هي في تلك القصيدة التي تُحسن
استخدام الاستعارة لكنها لا تنزف معنا. لذا، ربما سيبقى دور الكاتب في المستقبل ليس
أن يسبق الآلة في السرعة أو في التقنية، بل أن يذكّر القارئ بأن الأدب كان – وسيبقى
– شكلًا من أشكال النجاة، لا من الذكاء، بل من العزلة التي لا تُرى.
0 التعليقات:
إرسال تعليق