الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


السبت، مايو 10، 2025

هي اللغة التي نسيتها الرياح خبّأها الغيم في فم الصمت: نص سردي عبده حقي


في ليلةٍ لا يشبه قمرُها أيَّ قمرٍ رأيتُه من قبل، وجدتُ نفسي واقفًا في ممرٍّ ضيق من الضوء المتكسِّر، يمتدّ من بابٍ نصف مفتوح إلى فراغٍ لا ينتهي. كان الهواء مشبعًا برائحة رماد الكلمات القديمة، تلك التي قلتها ذات صدفةٍ وغرقَتْ في صخب العالم قبل أن تُفهم.

لم أكن أتكلم. لم أستطع ذلك. كنت مغموسًا في صمتٍ كثيف له نكهة الزعفران الممزوج بالحبر، كأن الصمت نفسه سائل داكن يسيل من بين مسامّ الكون، ويتجمّع حولي مثل طيفٍ لا يُرى لكن يُلمَس. هناك، في تلك الهُوّة بين سطرٍ لم يُكتَب، ونَفَسٍ لم يُطلَق، سمعتُ صوتًا لم يكن صوتًا. كان تموّجًا خفيفًا في نسيج الواقع. همسة لا تأتي من فمٍ بل من نواة الوجود.

"الصمت هو لغة الله، وكل ما عدا ذلك ترجمة رديئة"— قالها الحكيم الرومي، أو لعلّها لم تُقَل، بل طُبِعت في صدري كما تُطبع العلامات على جلود الغيوم قبل المطر.

في تلك اللحظة، بدأت جدران العالم تتقشّر. الكلمات التي علّقتها على حبال ذاكرتي طيلة حياتي سقطت دفعة واحدة: الحب، الخوف، الحقيقة، الوطن، الموت، القصيدة... كلها سقطت كأوراق خريفٍ لا ذاكرة له. كنت أشاهدها تتطاير في الريح، بينما بدا الهواء نفسه كائنًا حيًّا يبتلع الحروف ويُعيد تدويرها في شكل صمتٍ نقيّ، مثل مياه أولى لم تُدنَّس بعد.

مشيتُ. لا، لم أمشِ. انزلقتُ في نهرٍ من اللاصوت. كل شيء كان يتحدث بصمته: الجدران، الأشجار، نظرات القطط، ضوء النجوم، وحتى الجرح القديم في ركبتي الذي لم يبرأ منذ الطفولة، كان ينطق بلغة لا تحتويها الأبجدية. كان الكون كنصٍّ أبديّ لم يُكتب بالحبر، بل بالصمت نفسه.

في منتصف الطريق، قابلتُ رجلاً يشبهني تمامًا. وجهه محفورٌ من الرماد والزمن، وعيناه مليئتان بأصواتٍ لم تُسمع بعد. اقترب مني، ولم ينبس بكلمة. فقط أشار إلى قلبه، ثم إلى السماء، ثم إلى فمه المغلق بخيطٍ من نور. فهمتُه، لأنني لم أكن أفكّر. كنت أُصغي إلى ما وراء الحواس. ولأول مرة، بدا لي أنني لا أفهم فحسب، بل أُفهِم.

قال لي بلا كلمات: "حين تتكلم، فأنت تصفُ ظلّ الحقيقة، لا حقيقتها. لكن حين تصمت، تتماهى معها."

ومنذ تلك اللحظة، بدأتُ أفقد لغتي كما يفقد النائم اسمه في الحلم. الحروف التي كنت أعشقها تذوب في لساني، وتتحوّل إلى رمادٍ طريٍّ يتسلّل من بين شفتيّ كلما حاولت أن أتحدّث. لم أخف. بل شعرتُ بخفّةٍ غريبة، كأن جسدي صار هواءً يفهم نفسه دون أن يحتاج إلى تفسير.

رأيتُ كائناتٍ شفّافة تمشي في المدن الكبرى، وجوههم من مرايا، وأفواههم مفتوحة بالكلام، لكن لا أحد يسمعهم لأنهم نَسُوا الصمت. ثم رأيتُ آخرين جالسين تحت الأشجار، يغمضون عيونهم ولا يقولون شيئًا، ومع ذلك كانت أفكارهم تملأ السماء بألوانٍ غير مرئية. هؤلاء هم العارفون، أولئك الذين تعلّموا لغة الله دون أن يذهبوا إلى مدارس البشر.

أنا الآن واحدٌ منهم. لا أتحدث كثيرًا، وإن تكلّمتُ، فأنا أضع الكلمة كما يضع الجراحُ مشرطه على الجلد، بحذرٍ مقدّس. أدركتُ أن كل جملةٍ أقولها قد تكون خيانة لما لا يُقال، وأن كل حوارٍ قد يُشوِّه الحقيقة إذا لم يكن مسبوقًا بصمتٍ طويل.

وكلّما سمعتُ ضوضاء المدن، أحسستُ أنّ العالم يحاول جاهدًا أن يغطّي على لغة الله، أن يُسكت الصمتَ الكبير الذي يسكن في قلوبنا منذ الأزل. لكن لا جدوى. الصمت لا يُقهر. هو البذرة الأولى، والسماء الأخيرة، وهو العتمة التي تسبق الضوء، والنور الذي يبتلع كلّ العتمات.

وفي ختام رحلتي، عدتُ إلى ذاتي، لكنني لم أكن أنا تمامًا. كنتُ تلميذًا جديدًا في مدرسة الصمت. وكنتُ أكتب، لكن ليس بالحبر. أكتب بالسكون، في دفترٍ من الهواء، عن حكمةٍ لا تُدرّس في الجامعات:

أن الكلام يبيعنا إلى العابر، بينما الصمت يعيدنا إلى الله.

0 التعليقات: