الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


السبت، مايو 10، 2025

ملخص لرواية “سأحمل النار معي” للكاتبة ليلى سليماني: عبده حقي


تُطلّ الكاتبة الفرنسية-المغربية ليلى سليماني على قرّائها من جديد برواية «"سأحمل النار معي"«، خاتمة ثلاثيتها الروائية التي بدأتها بـ»أرض الآخرين»، ثم «نظرة النساء»، لتُتوّج هذه الملحمة الأسرية الحافلة بسردية آسرة تستحضر الذاكرة، وتفكك مفهوم المصير، وتعانق، من خلال الخيال، جراح العائلة والأوطان.

العنوان المستوحى من عبارة لجان كوكتو: «"إذا احترق منزلك، فماذا ستحمل معك؟ سأحمل النار"«، يُجسّد جوهر هذه الرواية التي تختار فيها سليماني صيغة المستقبل ــ “سأحمل” ــ لتعلن فعلًا وجوديًا يتجاوز الاحتمال. ليست النار هنا دمارًا، بل جوهرًا داخليًا: الذاكرة، الحب، الغضب، الخيال، وكل ما يورثه الأجداد للأبناء حين تتقطع السبل بالأرض أو تتلاشى الثقافة. هذه النار ـ المتوارثة والمتحولة ـ هي ما تحمله الكاتبة، لا الأرض ولا الأمكنة، في سرد يلامس الشعريّ من حيث الشكل، والتاريخيّ من حيث الجوهر.

في «سأحمل النار معي«, تعيد ليلى سليماني تركيب الجغرافيا العاطفية لعائلتها، وتغوص في التاريخ غير المكتوب للمغرب في الثمانينات والتسعينات، زمن القمع والفقر والخيبات الكبرى. الرواية ليست فقط سردًا عن شخصيات حقيقية بأسماء مستعارة، بل هي أيضًا ترميم لذاكرة جماعية مُهدّدة بالنسيان. لقد كتبت سليماني، بحسب تعبيرها، لتمنح لبلدها "كرامة روائية"، ولكي تفكك الخطاب الكولونيالي الذي دمج المغرب والجزائر وتونس في رواية استعمارية واحدة.

من خلال استحضار والدها، السياسي الذي تعرض للظلم وسُجن قبل أن تُبرّئه العدالة بعد وفاته، تسرد الكاتبة فصلاً مظلمًا من حياة عائلتها، وتحوله إلى مادة إنسانية تُقرأ بشغف. لقد أرادت، كما قالت، أن تسافر إليه مجددًا، أن تفهم وحدته ويأسه، وتمنحه من خلال الكتابة مساحة للحضور النقي.

الرواية لا تكتفي بحفر الماضي، بل تتناول أيضًا الحاضر من خلال موضوعات مرتبطة بجسد المرأة، وموقعها في المجتمع، وحقها في تقرير مصيرها. شخصيات مثل ميا وسلمة وماتيلد تجسّد صراعات نساء عربيات وفرنسيات يحاولن التفاوض مع "القدر" الاجتماعي والثقافي، دون الوقوع في ثنائية الضحية والجلاد.

بالنسبة لسليماني، الكتابة فعل جسدي، وتجربة أنثوية متجذرة في البيولوجيا كما في الحكاية. تسأل شخصياتها، وتعيد هي طرح السؤال ذاته: ماذا يعني أن تكوني امرأة؟ وكيف نعيش حياتنا دون أن نصير سجينات صورة مرسومة مسبقًا؟ هذا التساؤل المفتوح ينساب في الرواية كتأمل فلسفي، وتعبير عن تمرد ناعم على القوالب الجاهزة.

في مقابل الروايات السابقة حيث الخوف والقلق هما النبرة الغالبة، تسود في «"سأحمل النار معي"« نغمة من الحب والتعاطف، مع النفس ومع الآخرين. الحب، كما تصفه الكاتبة، ليس شفهيًا ولا يحتاج إلى شرح، بل هو صمت مشترك، وترك للأسرار دون اقتحام. في هذا الصمت الحميمي، تجد الكاتبة ما يشبه خلاصة لرؤيتها للعلاقات الإنسانية: لا تحتاج كل المشاعر إلى أن تُقال، وبعضها أجمل حين يُحتفظ به في الظلال.

الرواية أيضًا تمجيد للتخييل، ليس بوصفه هروبًا من الواقع، بل بوصفه تمرينًا على مقاومته. فحين يغدو الواقع جائرًا، يمنحنا الخيال مخرجًا، ومتنفسًا. وهذا ما يجعل العمل الروائي، كما تقول سليماني، «فعلًا سياسيًا بامتياز»، حتى عندما لا يتبنى خطابًا مباشرا.

الرواية تأتي في لحظة يُلاحظ فيها تآكل اللغة وتبسيط الخطابات السياسية. تتوقف الكاتبة عند مفاهيم مثل “الهجرة” و"المرأة" و"القدر"، وتُفككها لتُبرز هشاشتها. في زمن تسوده ثنائيات مبسطة: خير/شر، أصلي/غريب، حر/محكوم، تقدم «"سأحمل النار معي"« درسًا في التعقيد، وفي احتفاء اللغة بالحياة بكل تناقضاتها. لا تحاول الرواية حسم الأسئلة، بل تجعل من كل سؤال جسرًا نحو أسئلة أخرى.

«"سأحمل النار معي"« ليست فقط نهاية ثلاثية روائية، بل هي ذروة فنية وفكرية في مسار ليلى سليماني. كتاب يفيض بالحنين، بالغضب، بالحكمة، بالحب، وبالأسى. رواية شخصية وعائلية، مغربية وفرنسية، أنثوية وإنسانية، تخاطب القارئ من أماكن عميقة في النفس والتاريخ. إنها تذكار حار بأن الأدب، كما تقول الكاتبة، يظل المساحة الوحيدة التي نتمتع فيها بحرية لا تُراقبها العيون، ولا تحكمها القيود.

رواية لا تُقرأ فقط… بل تُحمل كجمرة داخل القلب.

"سأحمل النار معي" غاليمارد، 2025

0 التعليقات: