تبدوالسينما العالمية وكأنها تدخل طوراً جديداً من الوعي بذاتها وبسياقها. لم تعد الأخبار السينمائية محصورة في أرقام شباك التذاكر أو أسماء النجوم على السجادة الحمراء، بل اتجهت، في المغرب والعالم العربي وأوروبا والولايات المتحدة، إلى مساءلة أعمق لدور الصورة في زمن القلق الجماعي والتحولات المتسارعة. ما يجمع هذه الجغرافيات المختلفة ليس موضوعاً واحداً، بل مزاج عام: سينما أقل صخباً، وأكثر ميلاً إلى الإصغاء.
في المغرب، يبرز خلال هذه الفترة حراك سينمائي هادئ لكنه دالّ، يتجلى في عروض خاصة ونقاشات مهنية حول مستقبل “سينما المؤلف”. الأفلام المغربية الجديدة التي جرى تداولها في الأوساط النقدية خلال اليومين الأخيرين تنحو نحو سرديات بسيطة من حيث الشكل، لكنها كثيفة من حيث المعنى. المدينة، الذاكرة، العلاقات العائلية، والهامش الاجتماعي تتحول إلى عناصر سردية مركزية، دون افتعال أو خطاب مباشر. يلاحظ متابعون أن عدداً من المخرجين المغاربة باتوا يراهنون على الزمن البطيء للصورة، وعلى الصمت باعتباره لغة قائمة بذاتها، في قطيعة واضحة مع منطق الاستهلاك السريع. هذا التوجّه يُقرأ، داخل الوسط السينمائي، كعلامة نضج لا كخسارة جماهيرية.
في العالم العربي، ما تزال أصداء المهرجانات الكبرى حاضرة بقوة في النقاش العام، وعلى رأسها مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي، الذي تحوّل، في أيامه الأخيرة، إلى فضاء حقيقي للاعتراف الفني أكثر منه منصة استعراض. الأفلام العربية التي شغلت المتابعة الإعلامية خلال اليومين الأخيرين اتسمت بجرأة في الطرح، لا عبر الصدام المباشر، بل من خلال الاشتغال على التجربة الإنسانية الفردية: امرأة تعود إلى ماضٍ لم يُغلق، شاب يصطدم بحدود المدينة، أو عائلة تتآكل بصمت. اللافت أن عدداً متزايداً من هذه الأعمال يبتعد عن اللغة التقريرية، مفضلاً ترك مساحات بيضاء داخل السرد، يُطلب من المتفرج أن يملأها بخبرته الخاصة.
في أوروبا، يسود المشهد السينمائي شتاء تأملي بامتياز. العروض الصحفية الخاصة في مدن مثل باريس وبرلين قدّمت أفلاماً تنشغل بالعزلة، وتفكك الروابط الاجتماعية، والقلق الوجودي داخل مجتمعات تبدو مستقرة ظاهرياً. هذه الأعمال، التي لا تراهن على الإبهار التقني، تعود إلى جوهر السينما الأوروبية الكلاسيكية: الإنسان في مواجهة ذاته ومحيطه. القراءة النقدية الأولى تشير إلى رغبة واضحة في مراجعة الخطاب السائد، وفي مساءلة فكرة “التقدم” نفسها، من خلال قصص صغيرة، شخصيات عادية، ونهايات مفتوحة لا تمنح الطمأنينة.
أما في الولايات المتحدة، فيتزامن هذا الحراك مع تصاعد الحديث عن موسم الجوائز، غير أن اللافت في اليومين الأخيرين هو الحضور المتنامي للأفلام المستقلة في واجهة النقاش. هذه الأعمال، التي تعالج الانقسام الاجتماعي، الذاكرة الجماعية، والعنف الرمزي في الحياة اليومية، بدأت تستقطب اهتمام النقاد والإعلام على حساب الإنتاجات الضخمة. تصريحات عدد من المخرجين الأمريكيين تعكس هذا التحول بوضوح: السينما، في نظرهم، لم تعد مطالبة بتقديم حلول أو نهايات مريحة، بل بطرح أسئلة مزعجة، حتى وإن كان ثمن ذلك تضييق دائرة الجمهور.
ما تكشفه هذه التطورات المتزامنة، خلال 48 ساعة فقط، هو أن السينما العالمية تمرّ بمرحلة إعادة تموضع. من المغرب إلى العالم العربي، ومن أوروبا إلى أمريكا، تتقاطع التجارب حول فكرة واحدة: الصورة لم تعد واثقة من يقينها القديم، لكنها تكتسب، في المقابل، شجاعة جديدة. شجاعة الاعتراف بالهشاشة، وبأن الفن لا يغيّر العالم دفعة واحدة، لكنه قادر على إبطاء اندفاعه، وعلى فتح فجوات صغيرة للتفكير.
في زمن تتكاثر فيه الشاشات وتتناقص فيه المعاني، تبدو هذه السينما، الهادئة والقلقة في آن، محاولة صادقة لاستعادة جوهر السؤال: لماذا نروي الحكايات؟ وليس كيف نبيعها.








0 التعليقات:
إرسال تعليق