لا يبدو المشهدُ العربي للكتاب مجرّدَ رفوفٍ تتبدّل عناوينها، بل ساحةً تتحرّك فيها ثلاثُ قوىٍ معًا: منصّاتٌ ثقافيةٌ ترصد وتُراجع وتُقدّم، ودورُ نشرٍ تحافظ على إيقاعها رغم ارتباك السوق، وكتّابٌ صاروا مطالبين—أكثر من أي وقتٍ مضى—بأن يكونوا جزءًا من “اقتصاد الكتاب” دون أن يخسروا “كرامة النص”.
على مستوى المتابعة الصحفية، برزت في “القدس العربي” خلال هذه الفترة نبرةٌ لافتةٌ تعيد طرح السؤال القديم بصياغةٍ جديدة: هل الكتابُ سلعةٌ كبقية السلع؟ وهل يجوز للكاتب أن يتحوّل إلى مسوّقٍ لعمله دون أن يهتزّ مقامُ الأدب؟ مادةٌ منشورةٌ في الأيام القليلة الماضية هناك تُحاجج بأن الكتاب—مهما علا شأنه—يحتاج إلى تقديمٍ ذكيّ للجمهور، وتستحضر نموذج “الجولات الترويجية” وكيف تحوّلت من هامشٍ تسويقي إلى جزءٍ من صناعة النشر الحديثة.
هذا الجدل ليس نظريًا في السياق المغربي تحديدًا، لأن “سؤال القارئ” في المغرب صار لصيقًا بسؤال التوزيع والتسويق. وفي حوارٍ ثقافي سابق هذا الشهر على “القدس العربي”، طُرحت ملاحظاتٌ صريحة حول هشاشة الإقبال على الكتاب الورقي، وما يرافق ذلك من تشظّي المشهد بين مبادرات فردية، وفعالياتٍ موسمية، وغيابٍ مزمنٍ لاقتصادٍ ثقافيّ مستقر. أهمية هذا النوع من الحوارات أنه يضع الناشر والكاتب والقارئ داخل معادلة واحدة بدل تبادل الاتهامات: الكاتب يشتكي من التوزيع، والناشر يشتكي من السوق، والقارئ يشتكي من الأسعار… والنتيجة كتابٌ يتيمٌ في منتصف الطريق.
في الخلفية نفسها، تُشير موادّ أخرى منشورة حديثًا في “القدس العربي” إلى تحوّلٍ واضح في صورة الكاتب العربي المعاصر: لم يعد ذلك الكائن المنعزل الذي يكتب ثم يختفي، بل صار مضطرًا إلى التفاعل اليومي مع المنصّات، وإدارة صورته العامة، ومجاراة أسئلة الصحافة والقرّاء بالتزامن مع صدور كل عمل جديد. هذا الضغط—كما يلمح أحد النصوص المنشورة خلال الساعات/الأيام الأخيرة—يجعل الكتابة في حد ذاتها عبئًا مزدوجًا: عبء إنتاج النص، وعبء تقديمه وإبقائه حيًا في فضاءٍ سريع النسيان.
أما من جهة دور النشر، فتبدو “دار الآداب” مثالًا على بيت نشرٍ يحتفظ بـ“خارطة إصدارات” واضحة، حيث تُظهر واجهة الدار قائمة “أحدث الإصدارات” التي تضع أمام القارئ سلةً روائية/سردية متنوّعة، من بينها عناوين تُقدَّم بوصفها جديدة ضمن واجهة الموقع، مع إتاحة التصفح عبر صفحة “كل الإصدارات”. هذا النوع من العرض الرقمي ليس تفصيلًا شكليًا؛ إنه جزءٌ من إعادة بناء العلاقة بين القارئ والناشر، خصوصًا حين يصبح الموقع واجهةً أولى قبل المكتبة.
وفي السياق نفسه، تواصل “دار الساقي” الاشتغال على حضورها عبر أخبار الدار ومشاركات المعارض، وهو ما يظهر في قسم “آخر الأخبار” الذي يوثّق نشاطاتٍ مرتبطة بالترويج الثقافي والمعارض، بما في ذلك محطاتٌ عربيةٌ خلال ديسمبر. ورغم أن تحديثات “آخر 48 ساعة” قد لا تكون دائمًا على هيئة “إعلان إصدار جديد” حرفيًا، فإن نمط النشر هنا يشي بأن المعارض والحوارات والحقوق والترجمات أصبحت امتدادًا طبيعيًا لفكرة “الإصدار” نفسها: الكتاب لم يعد صفحةً تُطبع فقط، بل مسارُ حضورٍ وتداول.
وتتأكد هذه الفكرة حين نلتفت إلى ما تنقله “ضفة ثالثة” (ضمن فضاء “العربي الجديد”) عن الكتب بوصفها أخبارًا ثقافية قائمة بذاتها: ليس الخبر هو “صدور رواية” فقط، بل كذلك صدور أعمال بحثية وتركيبية، أو طبعاتٍ مترجمة، أو كتبٍ تُصاحب ملفًا سياسيًا/ثقافيًا ساخنًا. مثالٌ دالّ في هذا السياق: الإشارة إلى صدور كتاب باللغة الإنجليزية عن “أرشفة غزة في الوقت الحاضر: الذاكرة والثقافة والمحو” عن دار الساقي (بحسب ما يرد في مادة منشورة على “ضفة ثالثة”). هنا يتقاطع النشر مع الذاكرة والسياسة والأرشفة، ويتحوّل الكتاب إلى وثيقةٍ ثقافية تتجاوز دائرة القرّاء التقليديين.
من زاوية المغرب، تبدو الصورة أكثر تركيبًا: فالسوق المحلي لا يعيش بمعزلٍ عن دور النشر العربية الوافدة، ولا عن المنصّات الثقافية التي باتت تؤثر في الذائقة وتوجيه الانتباه. الجديد في اليومين الأخيرين ليس “قائمة عناوين مغربية صرفة” بقدر ما هو ملامح نقاشٍ ينعكس على الناشرين المغاربة أنفسهم: كيف يُسوَّق الكتاب دون ابتذال؟ كيف يُبنى جمهورٌ للقراءة خارج موسم المعارض؟ وكيف تُدار العلاقة مع المنصّات الرقمية دون أن يبتلع “الترند” روحَ الأدب؟
إن ما تقوله هذه المواد—حين نضعها جنبًا إلى جنب—أن صناعة النشر العربية تتحرك الآن على خطين متوازيين: خطّ “الإصدار” بمعناه الكلاسيكي (كتابٌ جديد، مؤلفٌ جديد، غلافٌ جديد)، وخطّ “المنظومة” (توزيع، ترويج، معارض، ترجمة، حضور رقمي، وصحافة ثقافية تشرح وتنتقد وتسلّط الضوء). وبين الخطين تقع مهمة الناشر: أن يحمي النص من الضجيج، دون أن يتركه فريسةً للصمت.
وفي المحصلة، فإن “جديد الإصدارات” في آخر يومين—كما تعكسه متابعة المنصات المذكورة—لا يُختزل في عنوانٍ أو اثنين، بل في تحوّل الخبر الثقافي إلى مرآةٍ لصناعة الكتاب نفسها: الكاتب يتعلّم قواعد السوق، والناشر يعيد هندسة حضوره الرقمي، والصحافة الثقافية تقترب من “اقتصاد الأدب” دون أن تتنازل عن حقها في النقد. وبين الرباط وبيروت، يواصل الكتاب العربي—ببطءٍ وعنادة—أن يصنع ضفته الثالثة: ضفةٌ لا هي ورقية خالصة، ولا رقمية خالصة، بل مساحةٌ هجينة تُعيد تعريف معنى أن يصدر كتابٌ “اليوم”.







0 التعليقات:
إرسال تعليق