واجه قطاعُ الذكاءِ الاصطناعيِّ في الصِّينِ في عامِ 2022 صدمتَينِ متتاليتَينِ من الولاياتِ المتحدة؛ تمثَّلت الأولى في قيودِ التصديرِ الصارمةِ على أشباهِ الموصلاتِ المتقدِّمةِ ومعدّاتِ تصنيعِها، فيما تمثَّلت الثانيةُ في تضييقِ الخناقِ على وصولِ الشَّركاتِ الصِّينيَّةِ إلى منصَّاتِ الحوسبةِ السحابيَّةِ عاليةِ الأداء، ما بدا آنذاك وكأنَّه كبحٌ استراتيجيٌّ طويلُ الأمد لطموحاتِ بكين في سباقِ العقولِ والخوارزميَّات. غير أنَّ ما تلا تلك الصدماتِ لم يكن انكفاءً بقدرِ ما كان إعادةَ تموضعٍ عميقةٍ أعادت رسمَ خريطةِ المنافسةِ العالميَّة.
خلالَ الأعوامِ الثلاثةِ اللاحقة، اختارت الصِّينُ مسارًا مغايرًا لما توقَّعه خصومُها؛ فبدلَ الرِّهانِ على ملاحقةِ التفوُّقِ الأميركيِّ في العتادِ المتقدِّم، اندفعت نحو تعظيمِ كفاءةِ النماذجِ، والاعتمادِ على الابتكارِ الخوارزميِّ، وتوسيعِ منظومةِ المصادرِ المفتوحةِ، وتوظيفِ كمٍّ هائلٍ من البياناتِ المحليَّةِ. هكذا تحوَّلت القيودُ إلى حافزٍ لإعادةِ هندسةِ السلسلةِ القيميَّةِ للذكاءِ الاصطناعيِّ من الأساس.
في عامِ 2025، بات المشهدُ أكثرَ تعقيدًا من ثنائيَّةِ “تفوقٍ” أو “تخلُّفٍ”. فالولاياتُ المتحدة ما تزال تتصدَّر في نماذجِ الأساسِ فائقةِ الحجم، وفي ريادةِ البنيةِ التحتيَّةِ للحوسبةِ، وفي جذبِ المواهبِ العالميَّة. غير أنَّ الصِّينَ سجَّلت اختراقاتٍ لافتةً في نماذجَ أقلَّ كلفةً وأكثرَ تخصيصًا، قادرةٍ على تقديمِ أداءٍ تنافسيٍّ في مجالاتِ الترجمةِ، والرؤيةِ الحاسوبيَّةِ، وتحليلِ البياناتِ الصناعيَّةِ، والتطبيقاتِ الحكوميَّةِ والخدميَّةِ واسعةِ النطاق.
الأهمُّ من ذلك أنَّ بكينَ أعادت تعريفَ مفهومِ “التفوُّق” نفسِه. فبدلَ السعيِ إلى نموذجٍ واحدٍ شاملٍ يهيمنُ على كلِّ الاستخدامات، راهنت على منظومةِ نماذجَ متعدِّدةٍ متخصِّصةٍ، تُدمَجُ بسلاسةٍ في الاقتصادِ الحقيقيِّ: من المصانعِ الذكيَّةِ وسلاسلِ الإمداد، إلى المدنِ، والتعليمِ، والصحَّة. هذا التحوُّلُ منحها ميزةً نسبيَّةً في الانتشارِ السريعِ والتطبيقِ العمليِّ، وهي ميزةٌ لا تقلُّ وزنًا عن سباقِ الأرقامِ القياسيَّةِ في الاختباراتِ المعياريَّة.
في المقابل، حافظت الولاياتُ المتحدة على تفوُّقها في الابتكارِ الرائدِ، لكنَّها واجهت تحدِّياتٍ متزايدةً تتعلَّقُ بكلفةِ التطويرِ، وبالجدلِ التنظيميِّ والأخلاقيِّ، وبالاعتمادِ المتبادلِ على سلاسلِ توريدٍ عالميَّةٍ لم تعد محايدةً سياسيًّا. ومع دخولِ الذكاءِ الاصطناعيِّ مرحلةَ “التسييسِ الكامل”، باتت القراراتُ التقنيَّةُ محمَّلةً باعتباراتٍ جيوسياسيَّةٍ تُبطِّئُ أحيانًا من وتيرةِ الانتشار.
إذًا، هل تفوَّقت الصِّينُ على الولاياتِ المتحدة؟ الجوابُ الأقربُ إلى الدقَّة: لم تتفوَّق بالصورةِ الكلاسيكيَّة، لكنَّها نجحت في كسرِ الاحتكارِ الرمزيِّ للتفوُّق. لقد انتقلت المنافسةُ من سؤالِ “من يملك النموذجَ الأقوى؟” إلى سؤالِ “من يملك المنظومةَ الأقدر على الصمودِ والتكيُّفِ والتطبيق؟”. وفي هذا التحوُّلِ بالذات، سجَّلت الصِّينُ نقاطًا حاسمةً غيَّرت قواعدَ اللعبة.
حصادُ 2025 لا يعلنُ فائزًا نهائيًّا، بل يكشفُ عن سباقٍ دخل مرحلةَ التعدُّدِ والتشعُّب. عالمُ الذكاءِ الاصطناعيِّ لم يعد أحاديَّ القطب، وما بين واشنطن وبكين يتشكَّل نظامٌ تقنيٌّ عالميٌّ جديد، تتداخلُ فيه القوَّةُ العلميَّةُ مع السيادةِ الرقميَّة، وتُقاسُ فيه الهيمنةُ بقدرةِ النماذجِ على خدمةِ المجتمعات، لا بمجردِ حجمِها أو شهرتِها.








0 التعليقات:
إرسال تعليق