لا يقدّم كتاب لغة الوسائط الجديدة قراءةً تقنيةً بحتة للوسائط الرقمية، بقدر ما يقترح نحوًا ثقافيًا جديدًا لفهم التحوّلات العميقة التي أحدثها الحاسوب في طرق السرد، والتصوير، والتلقي، وإنتاج المعنى. فـليف مانوفيتش لا يتعامل مع “الوسيط” بوصفه أداة، بل باعتباره منظومة فكرية أعادت تشكيل الحسّ الجمالي، وحدود الإبداع، وحتى مفهوم المؤلف نفسه.
ينطلق الكتاب من فرضية مركزية مفادها أن الوسائط الجديدة لم تنشأ من فراغ، بل خرجت من رحم السينما، والتصوير الفوتوغرافي، والتصميم الغرافيكي، ثم أعادت ترتيبها داخل بنية حسابية صارمة. هنا يصبح الحاسوب ليس مجرد وسيط عرض، بل عقلاً منظِّمًا يفرض منطقه الخاص: منطق القابلية للبرمجة، والتجزئة، والتكرار، والاختيار من القوائم.
أحد أهم إسهامات الكتاب يتمثّل في تحديده لمبادئ الوسائط الجديدة: التمثيل العددي، الوحداتية، الأتمتة، التنوّع، والتحويل البرمجي. هذه المبادئ لا تُقدَّم كتعريفات تقنية، بل كأدوات تحليل تسمح بفهم لماذا تغيّرت أشكال السرد، ولماذا لم يعد العمل الفني كيانًا مغلقًا، بل مشروعًا مفتوحًا على التحديث، والتعديل، وإعادة التركيب.
في هذا السياق، يكتسب مفهوم قاعدة البيانات مكانة مركزية. فالسرد لم يعد خطيًّا كما في الرواية الكلاسيكية، بل أصبح أقرب إلى أرشيف قابل للتصفّح، حيث ينتقل المتلقي بين المقاطع كما ينتقل المستخدم بين نوافذ الحاسوب. إننا، بحسب مانوفيتش، نعيش انتقالًا من “قصة تُروى” إلى “نظام يُستكشَف”.
غير أن قوة الكتاب لا تكمن فقط في أدواته التحليلية، بل في جرأته الفلسفية. فهو يضع الإبداع الرقمي في تماسّ مباشر مع أسئلة الحداثة، والذات، والآلة. هل ما نراه على الشاشة تعبير عن خيال إنساني، أم عن منطق خوارزمي؟ وهل لا يزال بالإمكان الحديث عن “أسلوب” فردي في زمن القوالب الجاهزة والبرمجيات المسبقة؟
رغم ذلك، لا يخلو الكتاب من بعض التوترات. فتركيزه الكبير على السينما والتصميم الغربي يجعله أحيانًا أسير سياق ثقافي محدد، كما أن تفاؤله المبكر بالوسائط الجديدة لا يستشرف بما يكفي ظواهر لاحقة مثل اقتصاد المنصّات، أو هيمنة الخوارزميات على الذوق العام. ومع ذلك، يبقى الكتاب مرجعًا تأسيسيًا لا غنى عنه لفهم الثقافة الرقمية بوصفها لغةً لها نحوها وصرفها وبلاغتها الخاصة.








0 التعليقات:
إرسال تعليق